المسكوت عنه في خطاب الإسلاميين "الديمقراطيين"
د. محمد أبو رمان
29-04-2007 03:00 AM
تفاجأت من ردود وتعقيبات متعددة وصلتني بعد الحلقة التلفزيونية "ملفات سياسية" - التي شاركت فيها- ويقدمها الإعلامي جرير مرقة على القناة الأردنية. أغلب هذه التعقيبات كانت تبدي استغرابها وانزعاجها من الحديث عن العلمانية وعدم تناقضها مع الإسلام، ومن الإشارة إلى أنّ الإمام حسن البنا لم يضع في ميثاق تأسيس جماعة الإخوان "الدولة الإسلامية" هدفاً لجماعته، وإنما تحدّث عن الدولة الصالحة، والحال نفسها تنطبق على تأسيس إخوان الأردن، إذ يلحظ الزميل والمفكر إبراهيم غرايبة أنّ الإمام حسن البنا سبق بعقود هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في الحديث عن الحكمانية والحكم الصالح أو الجيد.مثار استغراب العديد من هذا الطرح يعود إلى "المناطق الرمادية" التي لا تزال تحافظ عليها الحركات الإسلامية السلمية. ففي مقابل التأكيد على إيمانها بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة في مبادراتها الأخيرة، فإنّ الحركات الإسلامية تسكت عند الأسئلة المرتبطة بالدولة الإسلامية وطبيعتها وسماتها والقضايا المتعلقة بتطبيق الشريعة وموضوعة الحدود الشرعية وإدارة الدولة في مسأئل الحريات الخاصة والعامة ومسائل مشابهة.
إلى الآن يتمسّك عدد من المثقفين والمفكرين الإسلاميين بمقولة سيد قطب أنّ طرح البرنامج السياسي للحركة الإسلامية - في مواجهة المشكلات المتعددة في المجال الاقتصادي والسياسي وغيره- مرحلة لم تأت بعد في الظروف السياسية الحالية، في سياق الأحادية السلطوية وغياب تداول السلطة.
الذريعة السابقة تمتلك منطقاً مقبولاً ومفهوماً من جانب، إذ يرى المفكر الإسلامي فهمي هويدي أن الحركات الإسلامية شغلت في المراحل السابقة بالدفاع عن نفسها – نتيجة الظروف الاستثنائية القاسية- بدلاً من تطوير خطابها الفكري والسياسي. لكن ذلك لا يعفي هذه الحركات من تقديم تصورات لمشروعها، بخاصة أنها الحركات الوحيدة اليوم المؤهلة لوراثة الحالة السياسية الراهنة، وهي المرشح الرئيس في الانتخابات التي تجري في مختلف الدول، فمن حق الجماهير والمراقبين والسياسيين أن يطمئنوا لواقعية وأهلية البديل للراهن السياسي في تولي السلطة أو المشاركة الفاعلة فيها، بخاصة أنّ ما يسمع من هذه الحركات لا يتجاوز لغة الشعارات والاحتجاجات والرفض لما هو قائم.
فمهما كانت المسافة الفاصلة بين "الإسلاميين السلميين" وبين السلطة لا يجوز أن تكون أيديهم خالية من برامج واقعية لمواجهة أزمات الحكم والاقتصاد، بل هو استحقاق لوجودهم في المعارضة البرلمانية وغيرها، بأن يكون خطابهم واقعي عقلاني يتحدث بلغة الأرقام والمعلومات والبدائل الواضحة.
المفارقة الملفتة هي أنّ الوجه الآخر للإسلام السياسي اليوم، والمتمثل بالتيار "السلفي الجهادي"، قد حسم موقفه من سؤال الدولة الإسلامية، ويبدو واضحاً أن "النموذج التاريخي" هو الأقرب والأنسب لتصورات هذا التيار، والمثال الصارخ على هذا الاتجاه يتمثّل في إمارة "طالبان" قبل أن تنهار في الحرب الأميركية على أفغانستان، وكذلك في مثال الدولة المفترضة اليوم فيما يسمى بـ"دولة العراق الإسلامية" التي يتولى أمورها تنظيم القاعدة. فالنموذج المطروح هنا هو نموذج تراثي يتمسك بالإدراك الحرفي النصوصي للإسلام، ولا ينزعج من إشكالية التوفيق بين استحقاقات الواقع وبين المشروع الإسلامي. فالتلفاز غير جائز والمرأة في المنزل، ورجال الدين يحكمون المجتمع، تحظر أية مخالفات لأحكام الشريعة. وتصل المسألة السياسية في فكر هذا التيار إلى مرحلة فرض الملابس على الرجال والنساء، وإجبار الرجال على "إطلاق لحاهم"، بمعنى: الغاء أي مساحة للحريات الفردية والعامة، فهي حالة أقرب إلى "الطوباوية القسرية"، لم تقم في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، ولا حتى في فترة الخلافة الراشدة، بل هي أقرب إلى المخيال الاجتماعي السلفي.
بالتأكيد ليس ذلك النموذج الذي تسعى إليه الحركات الإسلامية التي ولجت اللعبة الديمقراطية وأعلنت تمسكها بها، لكن هذه الحركات لم تصل بعد إلى الخلاصات الصحيحة والمنطقية للطريق الذي تسير عليه! ومن الواضح أن ممارسة هذه الحركات تسبق فكرها بمسافات شاسعة.
إعلان الحركات الإسلامية إيمانها بالديمقراطية ومضامينها من التعددية وتداول السلطة وحق المعارضة..، يصل بها إلى القبول منطقاً وعقلاً بالعلمانية، بمعنى استقلال المؤسسة الدينية عن السياسية، ويرسي بها بعيداً عن المفهوم الكلاسيكي للدولة الإسلامية أو دولة الخلافة، ويجعلها أقرب إلى الأحزاب "المسيحية الديمقراطية" في أوروبا أو الأحزاب المحافظة في العديد من الدول.
ليس هنالك ريبٌ أنّ الحركات الإسلامية "الديمقراطية" تتجه نحو الواقعية والدولة القطرية والتخلي عن الأفكار التاريخية، لكنها تتحاشى حالياً الاصطدام بالتناقض مع مقولات أيديولوجية لا تزال تتردد في أوساط أبنائها ومؤيديها دون أن يكون لها معنى واضح أو إمكانية عملية، كما هو الحال من إشكالية مفهوم الدولة الإسلامية، فالمفهوم الأقرب إلى خطاب الإسلاميين الديمقراطيين هو ذلك الذي يقتصر على جوانب محددة ومعينة مع الإقرار بالصيغة الواقعية القطرية العلمانية، أي دولة للمسلمين وليس دولة إسلامية - على حد تعبير الاستاذ إبراهيم غرايبة- بعيداً عن المفهوم الذي يقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الحدود واستلهام النموذج التاريخي أو المثالي.
في هذا السياق تبدو تجربة حزب العدالة والتنمية التركي النموذج الناصع نسبياً لمآلات التحول والتطور الحالي للحركات الإسلامية، وقطع المسافة المتبقية نحو براغماتية كاملة بدلاً من الوقوف في منتصف الطريق، ذلك الوقوف الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ويضع هذه الحركات، بل الأوضاع السياسية بأسرها في حلقة مفرغة في العديد من الدول التي تقع بين تسلط الحكم واستفراد الإسلاميين بالشارع.
على الطرف الآخر، يمثل حزب العدالة والتنمية المغربي نموذجاً آخر، أكثر تطوراً من الأحزاب الإسلامية في المشرق، مع وجود ملاحظات جوهرية حول قدرات الحزب وأهليته للمرحلة القادمة. بعض قادة الحزب يتحدثون عن دور الحركات الإسلامية في "تخليق السياسة والمجتمع" (بمعنى منحهما بعداً أخلاقياً رئيساً)، وهو دور مواز تماماً للأحزاب المحافظة في أوروبا وأميركا، التي تركز على أهمية الأخلاق في الحياة السياسية والاجتماعية، بعيداً عن اليوتوبيا والشعارات الضبابية حول حلول جذرية.
ثمن كبير ستدفعه الحركات الإسلامية، ربما من شعبيتها، ان انتقلت إلى مرحلة واقعية وعملية وتخلت عن المنطق الخطابي، لكن الثمن الأكبر - على المدى البعيد- سيكون بقاؤها معلقة في عالم الشعارات والمايجبات!
m.aburumman@alghad.jo