عمر الرزاز هل يصلح ما أفسده الذين سبقوه؟
محمد قبيلات
05-06-2018 09:17 PM
عمون - كتب محمد قبيلات..
يحظى عمر الرزاز بالاحترام والتقدير من قبل الأوساط النخبوية في المجتمع الأردني، إذ ينظر إليه كشخصية تتمتع بخبرات اقتصادية وإدارية عالية، إضافة إلى نظافة اليد وبعده كل البعد عن شبهات الفساد التي باتت تلاحق الكثير من شخصيات الطبقة السياسية، لكن توقيت تكليفه برئاسة مجلس الوزراء ليس بالتوقيت الأمثل، خصوصًا أن هذا التكليف جاء في لحظة مفصلية، تستحق بجدارة وصفها بـ“التاريخية”.
ومما لفت الأوساط السياسية الأردنية في شخصية عمر الرزاز، كونه خبيرا اقتصاديا يأتي من خارج الطبقة السياسية التقليدية؛ ذلك أن والده، منيف الرزاز، الذي توفى في الإقامة الجبرية عام 1984 كان قياديا بعثيا كبيرا اعتقله صدّام حسين بعد توليه الرئاسة في 1979 اذ اعتبره من الجناح الحزبي الذي “تآمر عليه” وأراد الحؤول دون خلافته لأحمد حسن البكر.
يأتي تكليف الرزاز بعد أن أصبحت منطقة “الدوّار الرابع” عينًا لعاصفة الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت على إثر دفع حكومة هاني الملقي مشروعَ قانونٍ جديدٍ لضريبة الدخل، إلى مجلس النواب كي يقره، إضافة إلى رفعها لأسعار المشتقات النفطية، بعد يومين من إعلان النقابات المهنية إضرابًا احتجاجيًا على مشروع القانون.
أكثر الأسئلة إحراجا للرزاز اليوم: هل قَبِل أن يُعيّن على رأس الفريق الوزاري ذاته الذي كان يديره الملقي؟ حيث يَعني هذا تلقائيًا، بالنسبة إلى جموع المحتجين، أنه جاء على رأس حكومة تصريف أعمال، في أحسن الأحوال، وفي أسوئها يكون قد جاء ليكمل برامج الحكومة المُقالة بفريقها الاقتصادي غير المرغوب فيه شعبيا.
خلفيات هذا السؤال تخوّفات الأردنيين على حراكهم، وهي بالمناسبة مشروعة، حيث أن أخطر ما كان يتهدد هذا الحراك المدني العصري المنضبط أن يجري الالتفاف عليه من خلال إقالة الملقي، بشخصه لا بنهجه، وتعيين بديلٍ عنه بالآليات القديمة ذاتها، التي لم تنتج أي حكومة تمتلك الشرعية البرلمانية منذ تشكيل حكومة سليمان النابلسي عام 1956.
أما التخوّف الثاني فهو نابع من توجس أن يتم جر الحراك إلى حالة من الصدام مع الأجهزة الأمنية، ما سيُدخل البلد في نفق مظلم لا أحد يستطيع أن يعرف أو يتنبأ له بنهاية.
المواطنون يواجهون حكومة الجباية
ليست هذه هي المرة الأولى التي ينتفض فيها الشارع في وجه الحكومة محتجًا على السياسات الاقتصادية، فقد سبقتها أكثر من محطة صدام بين الشارع والحكومة، أبرزها في أبريل من عام 1989 في عهد حكومة زيد الرفاعي، حين وصلت الأزمة بالدولة إلى عتبات الإفلاس، لكن المَهارب كانت كثيرة آنذاك، حيث تم تقديم حل سياسي للأزمة بمنح الحرية للأحزاب والصحافة، وإجراء انتخابات نيابية، ودُعمت هذه المعالجات بدفعات الدعم للموازنة من العراق والدول الخليجية.
المحطة الثانية كانت عام 1996 في عهد حكومة الكباريتي وهي ما اصطلح على تسميته بأزمة أو ثورة الخبز، حيث أقدمت الحكومة آنذاك على رفع سعر الخبز وضريبة المبيعات.
تلت هذه المحطة في عامي 2010 و2011 التحركات الاحتجاجية الممتدة إلى الربيع العربي، و“هبة تشرين” 2012 التي اندلعت إثر رفع سعر المحروقات.
ولم تهدأ التحركات الاحتجاجية بعد ذلك، إذ استمرت في شكل تحركات مطلبية فئوية، توزعت بين محافظات الوسط والجنوب، كانت الاستمرارية ميزتها الأساسية، حيث واظبت مجموعات صغيرة على مطالبها بشكل متكرر ومنتظم من خلال فعاليات احتجاجية محدودة، لم ترتقِ فيها المطالب إلى مستوى المطالب السياسية إلّا في حالات نادرة، بل كادت مطالب هذه التحركات تنحصر في حل مشكلة البطالة للعاطلين عن العمل، أو تحسين أوضاع بعض الفئات، مثل عمّال المياومة في الدوائر الحكومية.
كرة الاحتجاجات تتدحرج وتكبر
غذّت الظروف الاقتصادية هذه التحركات الاحتجاجية، وخلقت الحواضن الشعبية المتعاطفة معها، لكن الحذر من انزلاق المشهد إلى الفوضى حدَّ من التجاوب الفعلي مع هذه التحركات من قبل دوائر أوسع، خصوصًا مع ورود الأخبار الدموية بشكل يومي من الجارة الجريحة سوريا، ما رسّخ الإحساس بأن تكاليف الاحتجاج قد تكون مرتفعة.
في ظل غياب حالة التمثيل السياسي الحزبي للشارع، وسيادة حالة من عدم الثقة بين فئات شعبية واسعة ومؤسسات الدولة وعلى رأسها البرلمان، جاءت حزمة الزيادات في الأسعار التي أجرتها حكومة الملقي، خلال السنة الماضية، حتى صارت توصف في أوساط واسعة بأنها “حكومة الجباية”. فقد سبق أن توسعت في رفع نسبة ضريبة المبيعات، ما أثر في الكثير من أسعار السلع الأساسية، ومن بعدها رفعت الدعم عن الخبز، وواصلت رفع سعر مواد الوقود بشكل شهري، بما يتوافق مع الأسعار العالمية للنفط.
واستمرت الحكومة في رفع الأسعار، في حين لم يجرِ أي تحسن على دخل المواطن، وضعفت القيمة الشرائية، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة، واعترى الضعف خدمات التعليم والصحة، وجاءت اللحظة الحاسمة، عندما قدمت الحكومة مشروعًا مُعدلًا لقانون ضريبة الدخل، يرفع نسبة الضريبة إلى أضعاف ما هي عليه الآن.
لم تعطِ تلك الإجراءات المتلاحقة فرصة للمواطن كي يستوعب هذه الصدمات كلها، نتيجة تلاحقها، وكان متوقعًا للأمور أن تنفجر حين تم رفع الدعم عن الخبز، لكن الشارع مرر هذا الإجراء، فكانت الضربة القاصمة برفع نسبة ضريبة الدخل وتوسيع الشرائح المشمولة بها، خصوصا ما أصطلح على تسميته بالطبقة المتوسطة، المتكونة من كبار الموظفين والمهنيين والتجار والحرفيين من سكان المدن الرئيسية، التي عرفتها دائرة الإحصاءات العامة في دراسة لها عام 2010 بأنها الفئة التي تحصل على دخل يساوي ضعفي أو أكثر معدل خط الفقر، وتقدر بعض الأوساط الدراسية حجم هذه الطبقة، رغم ما يُلم بها من تآكل، بنحو نصف المجتمع.
هنا لا بد من الحديث عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في التحشيد ضد القرارات الحكومية، فما إن بدأ النقاش حول مشروع القانون الضريبي الجديد حتى استعرت النقاشات الواسعة حوله، وكانت دعوة مجلس النقابات المهنية إلى الإضراب يوم الأربعاء الماضي فرصة لظهور حجم المعارضة الشعبية للحكومة، حيث احتشد الآلاف في ساحات مجمع النقابات في الشميساني، وكانت الفعالية في قمة التنظيم والانضباط، ما حدا ببعض المسؤولين في مجلس النواب والحكومة إلى كيل المديح لهذه الجمهرة ضد السياسات الحكومية لجهة التزامها بالقوانين وقواعد النظام.
الميزة الأساسية لهذه الفعالية غياب الحركة الإسلامية التي، على ما يبدو، لم تفق بعد من صدمة الخسارة في نقابة المهندسين، حيث فازت كتلة “نمو” في الانتخابات الأخيرة، التي تمثل الجناح الليبرالي المدعوم من تيارات قومية ويسارية، إضافة إلى رضا الجهات الرسمية عن هذه الكتلة، والذي تُرجم بالكثير من الدعم لجهودها، ما ساهم في تأهيلها للفوز وتنحية كتلة الإخوان المسلمين، التي هيمنت على هذه النقابة منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي.
انحياز العرش إلى المحتجين
انتهى الإضراب ببيان لمجلس النقباء أعطى مهلة للحكومة، لسحب مشروع القانون المقدم لمجلس النواب، أو إعلان وقفة أخرى أمام مجمع النقابات.
لكن الحكومة لم تلقِ بالًا لهذه التهديدات، بل رفعت بعد يومين أسعار الوقود بنسب بلغت نحو 5 بالمئة، ما زاد الشارع إثارة، فتمت الدعوة على الفيسبوك إلى فعالية أمام رئاسة الوزراء، على الدوّار الرابع، وكان وسمها على وسائل التواصل الاجتماعي “صف سيارتك واطفها على الرابع“، لم يؤخذ الأمر على محمل الجد في ساعات النهار، لكن مع قدوم ساعات المساء فوجئ الجميع بالحشود تتوافد إلى مبنى الرئاسة من كل فج عميق.
ومنذ تلك الليلة صارت المنطقة المحيطة بدار رئاسة الوزراء محجًا للمعارضين لسياسة الحكومة، وتوسعت الفعاليات لتشمل محافظات المملكة جميعها، من الشمال إلى الجنوب، حتى بلغت أكثر من أربعين فعالية لليلة الواحدة، امتدت على طول البلاد وعرضها.
لم تكن طاولة صانع القرار منقوصة من الملفات، فهي مزدحمة هذه الأيام بالكثير من الملفات الصعبة. لذلك جاءت النظرة المَلَكية لهذه الأزمة من أفق أرحب، بمعنى وضعها في سياقات السياسة العليا، فحالة الاستعصاء السياسي مردها في هذا المستوى من التفسير دوائر إقليمية ودُولية، تخلت فعليا عن الدور الأردني في صناعة الفرص والحلول الشرق أوسطية.
هذا المستوى من التفكير ولّد الشكوك في أن الحل تم رهنه بموعد وصول الرسائل إلى مراكز القرار الإقليمية والدُّولية، فالقاصي يعلم قبل الداني أن الحل أسهل من أن تتم المقامرة بمد عمر الاحتجاجات ليوم آخر.
لكن الرؤية العليّة تنظر إلى الموضوع من مستويات أخرى ترى القصة أكبر من أن يتم سحب مشروع القانون من غرف التشريع، ومن تشكيل حكومة وطنية تسعى لفتح الملفات الصعبة على طاولة المحتجين، وتقول لهم هذه هي الحلول، إضافة إلى التسريع في إقرار قانون الانتخاب بشكله العصري، بمعنى آخر تلبية نداءات المحتجين المطالبة بتغيير النهج، إنها ترى أن تصنيفه يجب أن يكون في سياقه السياسي الأشمل والأوسع.
لذلك تم استدعاء الملقي، وأُبلغ بالرغبة المَلكية في أن تتنحى حكومته جانبًا، وتم تكليف وزير التربية والتعليم، المعروف بانتمائه إلى التيار الإصلاحي، وهو شخصية سياسية مرموقة في عمّان ويحظى بثقة الأطراف أيضًا. وسُرِّبت هذه القرارات لوسائل الإعلام، لكنها جميعها ظلت شفاهية، ولم تصدر رسميًا إلّا ظهر الثلاثاء.
صدرت الإرادة الملكية رغم تحفظات مراكز بيروقراطية مهمة على هذا التكليف، فحاولت أن تشكك أو تخفف، إلى آخر لحظة، في احتمالية لجوء القصر إلى تسمية الرزاز. وقد أظهر خطاب التكليف السامي انحيازه إلى رغبة المحتجين، إذ بدأ بالفخر والاعتزاز بما سطّره الأردنيون، عبر الأيام الماضية، ووجه الحكومة الجديدة إلى مراجعة الأعباء الضريبية التي بات المواطن يتكبدها.
لماذا الرزاز؟
تم اختيار الرزاز، في ظل هذه الظروف الاستثنائية، وبرغبة ملكية لغرض إطفاء نار الشارع الملتهبة، كون الرزاز من نجوم الطبقة السياسية الأردنية الذين تم اختبارهم في مؤسسات عديدة، مثل تجربته في مؤسسة الضمان الاجتماعي، حيث تمكن من الخروج بالمؤسسة من مأزقها بقانون الضمان الجديد الذي تم تعطيله في المتاهات البيروقراطية لأكثر من عشر سنوات.
كما أنه حاز على الرضا، من مختلف المستويات، أثناء ادارته لوزارة التربية والتعليم، رغم بطء الخطوات المتخذة على صعيد الاصلاحات الادارية وتطوير المناهج، حيث كان من المتوقع أن يقدم الرزاز ما هو أكثر، لكن حساسية وزارة التربية، سواء للجهة الثقافية، أو لجهة تطوير كادرها، كونها تعتبر جسم البيروقراطية الأردنية، جعل هدف الرسمي المرور بسلام من جدليات التطوير في هذا القطاع المهم، والذي تعمد الجناح المحافظ عطفها على حالة الاستقطاب المستشرية بين الليبراليين والمحافظين في كافة أروقة الدولة الأردنية.
يفهم الرزاز بعينه الخبيرة الوضع الاقتصادي في الأردن جيدا. ويدرك ماذا يتطلب منه أن يفعل ولماذا تم اختياره. إذ ليس ببعيد عن هذه الأسباب خبرته في صندوق النقد الدولي والتنمية، حيث أن مشكلة الأردن الأساسية اليوم هي ترتيب العلاقة مع الصندوق وفق برامجه وخططه الأصلاحية، وترتيب الاتفاقية مع الصندوق بحيث تخفف من شروطها التي تستدعي التقشف وتقليل الانفاق في المجالات التي تخدم ذوي الدخل المحدود، اضافة إلى توسيع فرص التنمية لتشمل قطاعات اقتصادية مختلفة، لتقوم بدعم العملية الانتاجية وتشغيل الأيدي العاملة.
كان لوالد الرزاز الراحل كتاب شهير عنوانه “التجربة المرة” وهو الكتاب الذي لخّص به نظرته لمستقبل سوريا والعراق، ولم يكن يرى الأردن بالبعيد عن هذه النظرة، حيث كان مقتنعًا بالتجربة الماوية في بناء الدولة الصينية.
لكن الابن عمر بات اليوم منخرطًا في تيار ليبرالي له رؤيته المنفتحة على التجربة الغربية، حيث تلقى تعليمه، وهناك عمل في صندوق النقد الدولي، وتكونت رؤيته الاقتصادية والإدارية الخاصة، والتي تتفق مع الأوساط المتنفذة برسم السياسات الأردنية، ولا تخرج جميعها عن أطر المدارس الرأسمالية الغربية، التي تسعى لربط المنظومات والإدارات المحلية بالعالمية، من خلال خلق حالة عابرة للحدود، تسهل إدارة المنشآت المحلية من خلال شبكة عالمية بنكهة رأسمالية جديدة.
فالرزاز حاصل على شهادة الدكتوراه في التخطيط الحضري من جامعة هارفارد، والدكتوراه في القانون من نفس الجامعة. يمكن تلخيص توجهاته السياسية والاقتصادية في أنه من التيار الليبرالي الذي يؤمن بنموذج الديمقراطية الاجتماعية السائدة في أوروبا.
ومن ضمن خبراته في البنك الدولي مجالات تنمية القطاع الخاص، وتمويل البنية التحتية. وقد عمل في العديد من البلدان، مثل روسيا وأوزبكستان وروسيا البيضاء ومقدونيا وجنوب أفريقيا والمملكة العربية السعودية واليمن وإيران ولبنان والأردن.
شغل الرزاز منصب وزير التربية والتعليم منذ 14 يناير 2017 وكان رئيس مجلس إدارة البنك الأهلي الأردني، كما كان رئيس الفريق الفني الأردني لإعداد الاستراتيجية الوطنية للتشغيل، ومديراً عاماً للضمان الاجتماعي.
لكن أسئلة كثيرة تعترض هذه الخبرات الثرية المليئة بالتصورات المختلفة، أولها الأسئلة التي تنبثق من هُتافات المتظاهرين على “الدوّار الرابع”، الذين بدأوا الهتاف ضد حكومة الرزاز قبل أن تتشكل، وهذا ليس غريبا عن بلد رفع فيه المحتجون، في وقت سابق، شعار “تسقط الحكومة القادمة”، تعبيرا عن رفض النهج الاقتصادي الذي أدى إلى اختلالات هيكلية كبرى في مالية الدولة واقتصادها، وجعله اقتصادَ دينٍ قائمٍ على تغطية النفقات الجارية وخدمة الأقساط والفوائد.