هناك اسباب عديدة لتراجع مستوى التعليم الجامعي, سأركز الآن على تلك المتعلقة منها بالتمويل. لقد تعددت الجامعات الحكومية وتوسعت كميا لاستيعاب الطلب المتنامي على الدراسات العليا. وقد ادى ذلك الى الضغط على الموارد المالية المتاحة لتلك الجامعات التي اضطرت الى التعايش مع تناقص اعداد المدرسين وزيادة ساعات عملهم وتراجع مستوياتهم الاكاديمية وتقليص الخدمات المكتبية والمخبرية واللامنهجية, بالنسبة الى الاعداد المتزايدة من الطلاب.وبالنظر الى السياسات الليبرالية الجديدة المسيطرة في البلاد منذ التسعينيات, والقائمة على تقليص الدعم الحكومي للخدمات العامة, وصولا الى خصخصتها بالكامل, حدث الآتي:
-1- تم تجاهل تأمين الاحتياجات التمويلية اللازمة لـ »صيانة« الجامعات الحكومية, وتطويرها, -2- ثم عولج العجز المتنامي في ميزانياتها بالخصخصة الجزئية للخدمة, عن طريق رفع الاقساط, والتعليم »الموازي« غير التنافسي باسعار السوق, واستحداث برامج »مربحة« مثل برامج الدكتوراة -3- الترخيص واسع النطاق للجامعات الخاصة القائمة على اسس الربحية ووكالات الجامعات الخاصة الاجنبية.
ولكن التعليم الجامعي رفيع المستوى, بل حتى ذلك الجيد, لا يمكن ان يكون مربحا الا اذا كانت الرسوم والاقساط خيالية, وفي هذه الحالة, ربما يفضل المقتدرون ارسال ابنائهم الى الجامعات الامريكية والاوروبية. وهكذا فلكي تتمكن الجامعات الخاصة المحلية من تحقيق الارباح, فهي مضطرة الى تقنين الانفاق على المستوى. وبما انها تستقبل, عادة, غير المقبولين في الجامعات الحكومية, لا يمكننا, اذن, ان نتوقع منها الكثير في باب النوعية.
وقد تفاعلت ازمة التعليم الجامعي الى حد تدخل القيادة السياسية لمراجعة الموقف. ويقترح الوزير المعني, د. خالد طوقان, خطة لاصلاح هذا القطاع, تقوم على فكرتين متناقضتين هما 1- تحسين نوعية التعليم الجامعي 2- التمويل الذاتي للجامعات الحكومية من خلال زيادة الرسوم والاقساط تدريجيا وصولا الى اسعار السوق والتشدد في قبول الدارسين والغاء حصص المحافظات .. الخ...
وهذه الخطة غير واقعية 1- لان ضبط نوعية التعليم الجامعي والارتقاء به يحتاجان الى موارد مالية ليست متاحة, وتحصيلها من الطلبة سوف يحرم ابناء الفئات الشعبية من الدراسات العليا, ويحرم البلاد من المواهب والكادرات المؤهلة لخدمة الادارة العامة والصحة والتعليم العامين, وخصوصا في المحافظات.. فعندما يصبح الجامعي استثمارا كبيرا لعائلة ميسورة, فالارجح انه سوف يذهب الى القطاع الخاص. ولعل هذا هو المطلوب الذي يترافق مع الخصخصة الشاملة للادارة والخدمات العامة, 2- لان حصص المحافظات والبعثات والاقساط الجامعية الراهنة -وهي عالية اصلا- مرتبطة بتوازنات اجتماعية سياسية لا يمكن شطبها بجرة قلم.
هل هناك بديل؟ نعم! وهو الآتي:
اتخاذ قرار استراتيجي بتأمين الموارد المالية اللازمة للجامعات الحكومية بوصفها اولوية وطنية 2- وقف الهدر في هذه الجامعات بما في ذلك تشييد المباني الفخمة والنفقات الادارية الترفية والسفرات ... الخ.... والتركيز على تمويل العملية التعليمية نفسها 3 - اعتماد الجامعة الام, »الاردنية« لتطبيق معايير تنافسية متشددة في الهيئة التدريسية وقبول الطلبة, وتحديث وتطوير برامج التعليم والخدمات المكتبية والحاسوبية والمخبرية وتطبيق معايير عالية للنجاح والتخرج. وذلك مقابل رسوم رمزية شبه مجانية. فالمنافسة, هنا تقوم على الموهبة والقدرة العلمية وليس القدرة المالية.
بناء الانموذج الجامعي رفيع المستوى في جامعة واحدة ممكن من حيث التمويل وتوفر الكادرات الاكاديمية. وسوف يؤدي بقوة التأثير الى تحسين متدرج في مجمل التعليم الجامعي في البلاد, من دون الحيف بمصالح الفئات الشعبية وابناء المحافظات. ولعل د. طوقان يعرف اكثر منا ان الجامعات رفيعة المستوى في الولايات المتحدة تعد على اصابع اليد من بين الاف الجامعات الجيدة والمتوسطة والرديئ
.nhattar@jnb.com.jo