كان أبي يعمل «مُناظرا» بشركة الفوسفات في «الرصيفة». وكنتُ أذهب معه في عطلة آخر السنة، لسببين أحدهما «إراحة والدتي من غلبتي وشقاوتي»، والثاني لكي أتعرف على العمال في مناجم الفوسفات واساعد أبي في « توقيع الكوبونات» الخاصة بدوام العمّال.
كنتُ سعيدا بتأمل الناس البسطاء وكان راتب أبي وقتها «ثلاثين» دينارا بالشهر، وكانت اجرة دارنا «دينارين» طبعا بالشّهر.
ومن أبرز ما أذكره في حديث أبي مع العمّال حين يثرثرون طارحين مشاكلهم قوله: اختصِر !
يعني لغة عصرنا الحالي: هات من الآخر...!!
ومرت الأيام ودارت الأيام وترك والدي « الفوسفات» وغادرتُ « الرصيفة « وإن كانت لم « تغادرني» حيث بقي أهلي يعيشون فيها. وجاءني من يعيد « حكمة « أبي وبشكل مختلف.
إحدى الصديقات العزيزات ، كلما أسهبتُ في الحديث معها ، قالت لي: اختصر.
فأفهم أنها « مشغولة «. وصرت أفعل مثلها كلما اتصلت بي وكان « المكان لا يتّسع لحماقاتي»، أقول لها : اختصري.
فتدرك ان المكان « ملغوم «، وتاخذها من قصيرها.
ولعل أغلب الأزواج يكررون العبارة كلما اتصلت بهم زوجاتهم وهم في العمل، واحيانا تريد الزوجة ان تُظهر لمن حولها من الجارات أن زوجها يحبها وأنها « مدللة»، فتباغت زوجها بمكالمة بلا سبب وتتحجج أنها تريد « طلبات» للبيت. وتبدأ ب: كييييييفك يا حياااااااااتي. ويكون رده « الناشف» : أهلا.
فتسترسل السيدة « المسكينة « وكأنها تريد إيصال رسالة الى جاراتها. فيصدمها الرجل قائلا: اختصري ، عندي ناس. أو « احكي بسرعة مش شايفتيني مشغول».
طبعا لا بتكون « شايفته ولا دارية عنه».
والدي وبعد ان بلغ من العمر ما بلغ(90) عاما وقبل ان يتوفّاه الله/ وحين كنتُ أذهب اليه أجده لا يحب الاختصار، وحين كنتُ أُحدثه ، يطلب المزيد من الاسترسال خاصة اذا كان الحديث عن السياسة. ويظن المسكين أن كوني اعمل «صحفياً»، أنني أفهم (كل) ما يجري محليا وعربيا .
اعتقد أنني « شرّقتُ وغرّبت»، ولعل فيما بينكم من سيصرخ بوجهي:
خلص، اختصر.. !
وها انا أفعل.
الدستور