-1-
الدين ممكن فعلا أن يكون أفيونا للشعوب، خاصة إذا استلمه شيوخ دين، هم أقرب إلى أن يكونوا رجال دين بالمعنى الأكليلوسي، حيث يغرقون الناس بالتدين الخالي من الدسم، إن جاز التعبير، تدين ينصب على التطهر من الذنوب، والاستعداد للموت، وحمل آلة حاسبة لعد الحسنات، وإغراق وسائل التواصل الاجتماعي بالأدعية والتعويذات، وأمانة عليك أرسلها لأصحابك حتى أنا، والتفنن في تأليف قصص الزهد والمعجزات، ورواية ما هو موثوق وما هو غير موثوق من أيام السلف الصالح، وحتى غير الصالح أحيانا، والهدف هو إشغال الناس بالقشور دون اللباب، والاستغراق في إعداد النفي للانتقال إلى عالم الآخرة، وترك عالم الدنيا «لهم» ولا أسهل من أن يقول قائلهم: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ? وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» ثم يذهب في تفسير الآية مذهب من يريد أن يعميك عما يحصل حولك في الدنيا، والتطلع فقط إلى اللحظة التي يلفونك فيها بالثوب الأبيض ويلقونك في تلك الحفرة، والأمر على غير ما أريد له، وعلى غير ما جاء في كلام رب العزة، يقول الطبري في تفسير هذه الآية من سورة القصص:
تلك الدار الآخرة نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحقّ في الأرض وتجبرا عنه ولا فسادا. يقول: ولا ظلم الناس بغير حقّ, وعملا بمعاصي الله فيها!
أرأيتم؟ ظلم الناس!!
لا إدارة الوجه عن هذا الظلم، والانشغال بالتسبيح والتحميد، وطلب الستر، فقط؟
-2-
وثمة سؤال: لم لمْ تعد الموعظة تفعل فعلها بالناس؟ أقصد لم لمْ تعد تهز أعماقهم، ويتفاعلون معها، خاصة يوم الجمعة، حين يخلد بعض المصلين للنوم، فيما يذهب الخطيب يسرد على مسامعهم قصص الأولين والآخرين؟
الجواب يمكن أن يستغرق صفحات كثيرة، لكن أهم أسباب انصراف الناس عن «رجال الدين» وأنا أعنيها هنا تحديدا، ربما يكون ما يلي:
أولا/ تكسير اللغة والتأتأة بالكلام، وخلط الفعل بالفاعل والمفعول به بالمفعول لأجله، حتى ولو كان «رجل الدين» وما هو برجل دين ولا دنيا حتى، يقرأ عن ورقة، أو عن آيباد!
ثانيا/ غياب الإخلاص في الكلام، فقد قيل أن الكلام الذي يخرج من القلب يجد مستقره في القلب، الموعظة ليست قصيدة تلقيها على مسامع الناس، بسرد محايد، كأن الكلام لا يعنيك، حتى ولو كان خاليا من الأخطاء اللغوية، الموعظة هي حديث القلب للقلب، وما لم يكن الواعظ تقيا ورعا فلن يؤثر في الناس بفصاحته وفحولته اللغوية!
ثالثا/ على الواعظ أن لا يقع في ذنب خلط الأمور ومحاولة تشويه وعي الناس، بتزييف الحقائق، بتبرئة الظالم وتبييض صفحته، والدفاع عنه، وتزيين أفاعيله، لأن الناس اذكى مما يعتقد هؤلاء، وهم على وعي كبير هذه الأيام، بعد الانفجار المعرفي وسهولة تداول الأخبار، حينما يشعر متلقي الموعظة أن واعظه «دجال» فرطت المسبحة، وليس بعيدا أن يخرج على الواعظ أحدهم ليقول له: خلّـل كلامك يا شيخ، وخذ أوراقك وامش من عندنا، وربما يصعد أحد آخر إلى المنبر –إن شط الخطيب كثيرا- فيجره من لحيته ويلقي به بعيدا!
لقد كثر الواعظون، وقل الإخلاص، خاصة في رمضان هذا العام، حيث تميز بكشف دعاة مبجلين، أو هكذا كانوا، وقد اشتغلوا بالدعاية والترويج لدجاج وعطور، وقد كان يحسبهم الناس على غير ما هم، حتى انخرطوا فيما ينخرط فيه المشاهير، من استثمار للشهرة، لجني المال، إضافة إلى سقوط آخرين في وحل تبرير الظلم وترويج الوهم، والدفاع عن الظالم ونصرته، وخذلان المظلوم، وكل هذا لعمري مما يصيب الوعظ والوعاظ بمرض عضال، لا يشفيه إلا الإخلاص لله، والتخفف من الكذب والدجل!
الدستور