ان الكيانات المجتمعية المختلفةلم تتشكل ملامحها الا بالاستقرار ،فالثقافات المجتمعية تتشكل و تتطور برتبٍ معتدل بالتوازي مع التشريعات و تطورها المعتدل ، فإن اختل التزامن بينهما يتكون الخلل ،و بالتالي لم تستقر المجتمعات العريقة الا بالاستقرار ، و أهم أشكال هذا الاستقرار هو الاستقرار التشريعي ابتداء من تشريعات مؤسسة القبيلة ثم تشريعات الكيانات التي لا ترقى الى وصف ( دولة) ثم تشريعات الدول القائمة على لبنات سليمة منذ نشأتها .
نفخر كأردن ان تشريعاتنا ولدت سليمة رصينةً حصيفةً و اكتملت تقريبا لتغطي معظم مناحي الحياة منذ الخمسينيات ثم تطورت في السبعينيات، و استقرت طويلا دون تعديلات جوهرية لان المشرع آنذاك كان يدرك ان الاستقرار التشريعي هو اهم أركان استقرار الدولة لأنه هو الذي يشكل ملامحها العملية و هو الذي يؤثر في ثقافتها المجتمعية فكان التعديل الجوهري في التشريع لا يُطرح إلا ل( الشديد القوي).
و لما ان التعديل التشريعي اصبح ضرورة ملحّة بسبب ( تغير مقياس الزمن المعتاد و سرعة تبدل أدواته ) فإن ذلك يتطلب ذات الحصافة و الرصانة التي حكمت المشرع الذي شرَّع القانون الأصلي ابتداءً، و ذلك ما لا نراه اليوم مع الأسف ، فأصبح الهدف الأرجح للتعديلات التشريعية يعود لدافع سطحي جدا و سذاجة توحي لمعدّ مشروع التشريع انه الأمثل في حل مشكلة آنية و كأن التشريعات تصنع لحلول الأزمات السريعة.
على سبيل المثال ؛ حزمة التشريعات القضائية الاخيرة سببت إرباكا قضائيا كبيرا و لا زالت ، و تشريعات اخرى عديدة منها تعديلات الضريبة المتتالية في السنوات الاخيرة التي أضاعت مسطرة القياس فلم يعد المتخصص قادرًا على استنتاج معيار محدد الا ضمن شروط معقدة، و اليوم تتململ الحكومة سعيا لاسدال الستار على قانون الضريبة بتعديلات مجحفة بالمكلفين، منفّرة للمستثمرين، مدمرة للاقتصاد الوطني استنادا الى هدف سطحي ساذج يظن ان رفع الضرائب هو تحفيز اقتصادي مخالفا بذلك جميع المعايير التنموية العالمية التي تؤكد عكس ذلك.
التشريعات الاردنية المعدلة المتكررة مؤخرا تذكرنا بعملية صناعة الألبان حيث يبدأ طرح المنتج بصفة ( لبن رايب) و بعد انتهاء صلاحيته يسحبه المنتِج و يحول صفته الى ( لبنة) ثم بانتهاء صلاحيتها تصبح لبن مخيض و تنتهي الصفة التدويرية لها اخيراً الى ( جميد)، طبعا الجميد لا يمكن اعادة تدويره الا الى صفة (حجارة) لتكسير ما تبقى من استقرار.
فهل من مستمع من المشرعين يعود الى تاريخ التشريع الاردني ليعلم ان الأصل في التشريع هو الاستقرار و أن الاستثناء هو التعديل..!!!