مرات قليلة جدا التقيت بها وجها لوجه الأديب الأريب والمفكر الأردني الكبير إبراهيم العجلوني، ولكنني التقيته كثيرا جدا، مرات تستعصي على الحصر، كقارىء لما يكتب، سواء من مقالات أو كتب، فهو كاتب مختلف تماما عن بقية الكتاب، الذين يكررون أنفسهم، أو يعيدون إنتاج ما يقوله الآخرون، أما كاتبنا الكبير فمنتج أفكار، وإن لم يأخذ حقه من الحضور والانتشار والاحتفاء والاحتفال، رغم غزارة إنتاجه، وجودته وتنوعه، ما بين شعر ونثر وسرد وفكر وتنظير!
لماذا أكتب اليوم عن إبراهيم العجلوني؟
الحقيقة أنني منذ فترة طويلة أتابع عن بعد أحواله الصحية والحياتية، وأشعر بأسى كبير على ما هو فيه، من مرض وضيق، وإهمال، وهو الرجل الذي يستحق احتفاء وتكريما وهو على قيد الحياة، أمد الله في عمره وبارك الله له به، وقد اعتدنا أن نكرم رجالنا بعد رحيلهم، بل لا نتذكرهم أصلا وهم أحياء، حتى إذا رحلوا صاروا عزيزين علينا، ونشرع في كتابة المطولات في تعداد مناقبهم وإسهاماتهم في حياتنا الفكرية والإبداعية، وكنا نسيناهم وأهملناهم وظلمناهم أحياء، وربما يأخذنا الحماس بعيدا، فنسمي شارعا باسمهم، أو نعلق أسماءهم على باب قاعة أو مدرج أو مسرح، وكان المعني يتمنى في حياته أن يرفع أحدهم هاتفه فيلقي عليه السلام!
أطال الله في عمر أديبنا إبراهيم، وأحسن الله إليه، فهو حي يرزق، ولم يزل يتحفنا بإنتاجه الفكري الفذ، فقد أكرمني بإهداء شخصي لكتابه الذي يحمل رقم 34 في سلسلة كتبه المختلفة، وهو كتاب قيم لم يتسن لي أن أقرأه كله، ولكن ما قرأته منه يعطيني فكرة عن عبقرية هذا الرجل، وطول باعه في إنتاج الفكر، وتحليل واستبطان العلاقة بين حضارتين، واستكناه مستقبلهما، أعني حضارتنا في الشرق وحضارتهم في الغرب، وما يكتب فيه إبراهيم هو مدار كل ما يجري في هذا العالم، الذي يكاد يكون تاريخه منذ بدأت الخليقة، هو حركة الصراع بين تلكم الحضارتين، وجماع ما يكتبه كاتبنا هنا يمكن عصره في كلمات قليلة: نحن بالنسبة لهم «آخر» لا ملامح له، مصمت يُستغل ويُستخدم ويُطاح به، وهم بالنسبة لنا «المختلف» الذي يجمعنا وإياه رحم إنسانية واحدة، إذ نرجع وإياه لأب وأم وننبثق من الأرومة نفسها، ثم ننتشر شعوبا وقبائل لنتعارف، أي ليعرف بعضنا بعضا (والمرء عدو ما يجهل) ثم ليكون بيننا العرف أو المعروف، وليكون تنافسنا مقتصرا على توقي الشرور، وعلى تحصيل «القيمة العليا» أو مناهج الأخلاق الحميدة، وكما تمهد «الآخريّة» للعداء والتفاني تمهيدا، فإن الاختلاف (وهو سنة كونية وإنسانية) يمهد لألوان المودة والتلاقي تمهيدا، إذ تتبقى للمختلف في ضوء هذه الرؤية ملامحه الإنسانية، ويبقى له تميزه واعتباره وتبقى العلاقة معه امتحانا لأخلاقنا خيريتنا وسماحتنا (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)...
هذا قبس مما جادت به قريحة أخينا الكاتب الكبير، في سفره الجديد، الذي بدا لي أنه طبعه على حسابه الخاص، حتى بدون دار نشر، حيث يخلو من اسم دار النشر، وإن تزين باسم إبراهيم، وهو كافيه!
يقول الدكتور ماجد حرب، في مقدمة الكتاب: حذق إبراهيم العجلوني أمرين شكلا معا حالته المعرفية: تدبر التراث وتمثل الدرس الفلسفي، وقبل هذا، يقول في مفتتح مقدمته: لست أدفع أن يكون الأستاذ إبراهيم العجلوني واحدا من أهم مثقفي الأردن، ولست أدفع أيضا أن يكون حالة معرفية نادرة، استوى عندها النظر العقلاني واستحصدت فيها علائقه، حتى جرى بأمره رخاءً حيث أصاب!
سلام عليك يا أخانا إبراهيم، ولو كنت من بهلوانات عصرنا، ومتلونيه، ومتقني القفز من ظهر لظهر، لما لقيت ما لقيت من عنت الحياة وقسوتها ونكران أهلها لك، وللمبدعين من أمثالك!
الدستور