عشرون شمعة لـ'القدس العربي'
عبد الباري عطوان
25-04-2009 05:47 AM
تحتفل أسرة 'القدس العربي' اليوم بمرور عشرين عاماً على صدورها دون انقطاع.. سنوات كانت صعبة بكل المقاييس، ابرز انجازاتها الصمود والاستمرار، وكظم الغيظ، والترفع عن الصغائر، والانحياز الى مصلحة أمتنا وعقيدتنا، والتصدي لكل المشاريع الاستعمارية دون هوادة.
ناصرنا كل القضايا العربية، رغم منعنا من الدخول الى اكثر من دولة عربية، بل ان بعض من ناصرناهم ذهبوا الى ما هو ابعد من ذلك عندما استخدموا احدث ما انتجته التكنولوجيا من اجهزة لحجب موقعنا على شبكة 'الانترنت'.
اصبحنا سوريين عندما تعرضت دمشق للعزل وحملات التشويه والاستهداف الامريكية، وكنا عراقيين عندما تعرض العراق العظيم للغزو والتدمير، ووقفنا في خندق الدفاع عن الخليج عندما تعرضت عروبته للخطر، وواجهت انظمته حملة شرسة في اعقاب احداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول)، وكنا يمنيين عندما تعرضت وحدة اليمن لمؤامرات الانفصال وحربه، وكنا جزائريين عندما واجهت وحدة الشعب الجزائري اختبارا صعبا، ووقفنا في خندق المغرب عندما حاولت اسبانيا استفزاز وحدته الترابية، باحتلال جزيرة 'ليلى'، ووقفنا ونقف مع السودان في مواجهة اخطار التفتيت ومحاولات طمس هويته العربية، ومع الامارات في استعادة جزرها المحتلة.
كنا وسنظل دائماً منحازين للمقاومة في فلسطين ولبنان، نتصدى للحصارات الظالمة المفروضة غربياً وامريكياً، ابتداء من حصار ليبيا تحت ذريعة مؤامرة لوكربي، وانتهاء بحصار مليون ونصف المليون انسان فلسطيني في قطاع غزة على ايدي النازيين الاسرائيليين الجدد.
اختلفنا مع النظام المصري، ولم نختلف مع مصر، انطلاقاً من غيرتنا على هذا البلد وحرصنا على استعادة دوره القيادي الريادي، وافترقنا عن السلطة الوطنية الفلسطينية لايماننا منذ اليوم الأول بأن رهاناتها على عملــية التسوية ومفاوضاتها فاشلة، علاوة على كونها مهينة ومذلة، لا ترتقي الى مستوى تضحيات الشعب الفلسطيني العريق المناضل.
بوصلتنا كانت دائماً وستبقى، شارعنا العربي ومشاعره الوطنية الصادقة، فلم نهادن أي نظام، ولم نصمت على اعتقال او انتهاك لحقوق الانسان، وجعلنا من مساندة الحريات التعبيرية، والتعددية السياسية، والانتقال السلمي للسلطة، والقضاء العادل المستقل، والتوزيع المنصف للثروات، سواء على المستوى القطري او القومي، قمة اولوياتنا السياسية والمهنية.
لم نكن ابداً اقليميين، وخطابنا لم يحد ابداً عن الترموميتر القومي العربي الاسلامي، وأسرتنا تجسد هذا المنطلق من حيث كونها فسيفساء عربية تضم باقتها كل ألوان الطيف العربي بمختلف ألوانه وجنسياته، دون أي تفرقة او تمييز.
وباعتبارنا صحيفة مهجرية، وظفنا كل امكانياتنا المهنية في خدمة ابناء جالياتنا العربية والاسلامية في مختلف المنافي، تبنينا قضاياهم، وكنا منبرا للدفاع عنهم، وايصال صوتهم بكل الطرق والوسائل الى المسؤولين الغربيين، دون ان ننسى اهلنا في الوطن، ونضالاتهم العادلة من اجل التغيير نحو الافضل ومواجهة مشاريع الهيمنة الاستعمارية.
اصبحنا مقصدا لوسائل الاعلام الغربية، تترجم آراء كتابنا، وتنقل عنا أخبارنا، وتستضيف محررينا كمعلقين وخبراء في المجالات كافة. كما كنا وما زلنا موضوعا اساسيا للعديد من الدراسات الجامعية في الوطن والمهجر، ابتداء من درجة البكالوريوس وانتهاء بدرجة الدكتوراة.
ابتعدنا عن 'الجوائز العربية' في مجالات الاعلام خاصة، لان معايير من يرعون هذه الجوائز ويمنحونها هي في الغالب 'غير مهنية' و'غير موضوعية'، تمنح غالبا للدائرين في فلك معين، يتبنون خطا رسميا، ويغضون النظر عن الكثير من الثقوب والعيوب، مع بعض الاستثناءات التي نقر ونعترف بها، ولكنها قليلة على اي حال.
نعترف اننا لسنا مثاليين، فالكمال لله، جلّ وعلا، ارتكبنا اخطاء، فمن لا يعمل لا يخطئ، وقد نكون انفعلنا في مواقفنا تجاه بعض الاحداث، وأُخذ علينا ذلك، ولكن عذرنا ان الخطب كان كبيرا، والمؤامرة اضخم من كل توقعاتنا. فكيف لا ننفعل عندما يتعرض بلد عربي كبير مثل العراق لأبشع مجزرة في تاريخ الامة على ايدي المحتلين الامريكيين؟ وكيف لا ننفعل واشقاؤنا في لبنان يتعرضون لعدوان يدمر نصف بلدهم، واخوتنا في قطاع غزة يضربون بقنابل الفوسفور الابيض ويقصفون من البحر والبر والجو، وانظمة عربية تتواطأ مع العدوان وتشدد الحصار عليهم؟
تعرضنا لحروب شتى من قبل انظمة عربية، وقوى استعمارية، بعضها وصل الى التهديد بالاغتيال، وبعضها اقتصر على محاربتنا في مصدر رزقنا، فقد قطعوا الاعلانات عنا، وحذروا من يقترب منا اعلانيا، حتى يمارسوا مقولتهم الشهيرة انها صحيفة دون اعلانات، فكيف تستمر؟ ويشرفنا ان نقول بأننا رفضنا نشر حملات اعلانية تروج للاحتلال والعدوان على الامة بمئات الآلاف من الدولارات. كما اننا رفضنا ان ننشر اعلانات لمحاكم امريكية 'تجرّم' امراء كبارا في المملكة العربية السعودية بتهم التورط في احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) رغم خلافنا معهم ودولتهم، ورغم حربهم المعلنة والمستترة ضدنا في حينها وحتى الآن.
بدأنا هذه الصحيفة في 'خيمة' صغيرة الى جانب 'ناطحات سحاب' اعلامية ضخمة في لندن، وما زلنا نصدرها من الشقة المتواضعة نفسها (وصفها الزميل سليم عزوز عندما زارنا بقوله شقة بمنافعها)، فالمسألة ليست مسألة مبان او مكاتب فخمة، وانما مسألة مواقف وسياسات ومضمون وقيم.
لا نملك 'عصا موسى' ولا اموال قارون، ولكننا نملك الارادة والعزيمة والتصميم، ومواجهة كل الظروف والمضايقات برأس مرفوعة، وعزة نفس، وكرامة المحاربين، فنحن لسنا طلاب مال وانما طلاب نصر ورفعة لأية قضية وعقيدة مشرفة. ولو كان هدفنا المال لكنا في خندق اصحابه وما اغناهم، وما اكرمهم، وما اسخى عروضهم لمن يعرض نفسه للبيع.
لم نشخصن خلافاتنا مطلقا، ولم ننزل الى مستوى الردح، وابتعدنا عن المهاترات، وتعففنا عن النيل من زملاء، حتى الذين تطاولوا علينا، وشككوا بمسيرتنا، فلم تكن معركتنا ابدا مع زملاء، وانما مع انظمة دكتاتورية قمعية، فلا ضغائن ولا احقاد لدينا، ولن تكون بإذن الله، ثبتنا على مواقفنا ولم نتراجع عنها طوال العشرين عاما الماضية، ليس لاننا مع الجمود، ولكن لاننا عنيدون في الحق، صلبون في القبض على الجمر، مؤمنون بأن سنوات الأمة العجاف ستنتهي قريبا، وستستعيد هذه الامة العريقة مكانتها بين الامم.
امبراطوريات اعلامية عريقة انهارت، واخرى تضعضعت واهتزت، فالصحافة الورقية تواجه صراعا شرسا من اجل البقاء في زمن الفضائيات والانترنت الزاحف، ولكننا صمدنا، وسنستمر بإذن الله، وحصّنا قلاعنا بتطوير موقعنا على الشبكة العنكبوتية، واصبحنا نستقبل عشرات الملايين من الزوار شهريا.
نتقدم بالشكر كله الى قارئنا الذي ضرب مثلا رائعا بالوفاء بوقوفه الى جانبنا طوال العشرين عاما الماضية، وكان نعم السند، ونعم الحكم. كما نتقدم بالشكر ايضا الى اصدقاء هذه الصحيفة الذين لم يبخلوا علينا بدعمهم ونصائحهم، بل وحتى بانتقاداتهم.
مع دخولنا عامنا الحادي والعشرين نعيش حالة من الانسجام مع النفس اولا، ومع قرائنا ثانيا، ونعد بأننا سنظل على النهج نفسه، ولن ترهبنا كل الضغوطات والتهديدات، ونسأل العلي القدير ان يسدد خطانا، وان يمكننا من الوفاء بالعهد، بان نبقى عند حسن ظن شارعنا العربي، فهو زادنا وهواؤنا. وكل عام وانتم بخير.