كنت حديث السن .. ، أتلقى تعليمي الابتدائي في مدرستي ؛ رابطا ما أتعلمه بالدروس التاريخية التي كنت أستقيها من جدي ، حتى كبرت وانتقلت إلى صفوف متقدمة ، وبدأت أشعر بأنني صرت ملما بأشياء كثيرة ؛ مليئة بالأمجاد والعزة ، كما أنني أصبحت مهتما بمادة (التاريخ القديم) ومحباً لها ؛ لما فيها من أمجادٍ تشعرني بالفخر والكرامة ، وعروبة ظللت مشتاقاً لارتشافها منه يوماً بعد يوم. ولكنني كنت ألاحظ أن جدي يمتطيه التوتر والخجل ؛ كلما تقدم بي السن وتكاثرت أسئلتي التي تحتاج لإجابات حاضرة في الذهن ، فصرت أراه يتوارى عن أنظاري التي كانت ترقبه لتستوضح منه عما يجول في أفقها الواسع.
بقينا على هذه الحال أياماً عدة ؛ وأنا أقتنص الفرصة الذهبية لأتلقى منه دروسا مثل تلك التي عظمت في نفسي عروبة لا حدود لها ، حتى جاءت تلك الليلة الظلماء ؛ في فصل تتساقط فيه الأوراق ، حيث ذهبت إلى مدرستي وجلست في صفي منتظراً بدء الدرس الذي اشتقت إليه ، وإذا بمعلم التاريخ يدخل متوجها إلى طاولته ليجلس عليها صامتاً والبؤس في عينيه ؛ دون أن ينطق بحرف ، وظل هكذا حتى انتهى الوقت ؛ وخرج دون أن يتكلم بكلمة واحدة … ، وفي اليوم التالي جاء وفعل ما فعله في اليوم الأول ، وهكذا دواليك حتى قارب الفصل الدراسي على الانتهاء ؛ دون أن يعلمنا شيئا في تلك المادة.
عندها صرت أشعر بأن هناك قاسماً مشتركاً بينه وبين جدي -فكلاهما يهرب بطريقته- ، ولم يعد هناك مصدر أستقي منه تلك الأمجاد التي اشتقت إليها … ، وقبل أن ينصرف المعلم كعادته … ، وقفت سائلا إياه معترضا على إغفاله تدريس تلك المادة ، فأجابني بكلمات نزعت مني تلك العظمة التي ترعرعتُ عليها ؛ عندما فتح كتابه وأغلقه بعد صمت دام لحظات ، ليُخرج التلاميذ من غرفة الصف ويبقيني وحيداً ليدعوني قائلا : دع التاريخ يا ولدي ؛ فما التاريخ معصومٌ من التزوير والدّس!! ، فقد ولى صلاح الدين منفرداً ؛ فهل حفظك للتاريخ سيبعثه من الرمس؟؟! فقد كنا عرباً أقاموا دولة عظمى بحد السيف والترس ، ولم تخضع عروبتنا (لرومان) ولا (لفُرس) ، وصرنا نطير كما طاروا ؛ ولكننا عدنا عن الطيران بالعكس ، فأمسى التاريخ يفضحنا ويسترهم ، ولعبت الأيام الصفراء لعبتها ؛ فأصبحنا ممثلين عمالقة ؛ نمثل على أنفسنا ولم ننجح إلا بأداء (الكومبارس).
دهشت لما سمعت ، بكت عيناي .. ، تناولت كتبي مسرعاً إلى منزلي لأجلس أمام جدي محدثاً إياه بما سمعت ، طامعاً أن ألقى جواباً شافياً ومخرجاً يخرجني مما أنا فيه، … ، ولكنني وجدته خائفاً من ذلك المصير الذي طالما هرب من انتظاره ، لاعنا عقارب الساعة التي طوت الأيام والسنين وتراكضت لحظاتها ودنت ساعات أجلها ، فبدأ العرق يتصبب من جبينه ، وتسارعت التضاريس المتجعدة في وجهه ، معبرة عن ذلك الخوف الذي كان يعتريه ، فأخذ يستعيد أنفاسه متحاملاً عليها ؛ ليحدثني عن زمانه الذي عاش فيه من مؤامرة إلى أخرى ومن بؤس إلى بؤس، فانهار مؤيداً ومعلناً صدق ذلك المعلم ، … ،فناديته بصوت صارخ مستعلماً عن تلك الدروس راجياً أن ألقى حقيقة تسعفني .. ، فناداني : أن لا تسلني إلى أين وأين ، فقد أرَّخت الأيام كل شيء في كتابك من حين إلى حين ، وعادت السنون تبكي حنيناً بعد حنين ، وأصبح التاريخ مهزوما بعزته ؛ وأمست أوراقه تبكي بأنين بعد أنين ، فإذا سألتَ كتابك يا ولدي ستعلم أن ما يجمعك والتاريخ هو البين ، وتعود إلى زمن تستـثـقل فيه القول إلى أين وأين ..؟؟!! لأنك ستدرك أنه ليس مع العين أين…