لا تتساءلوا عن شهقة الكون لبكاء الجوعى ،
فنحن مشاركون هذه الجريمة ، كلنا بلا استثناء ..!ّ!هنالك العديد مما يندرج تحت مسمّى المساعدات الأجنبية ، التي باتت اليوم ودون استثناء موضع مساءلة أخلاقية ،تحيطها علامات الاستفهام لما يعتريها من تداخل المصالح واخراجها عن جوهر مسمّاها .
وفي مقالي هذا أشير- في إطار ما يسمّى بالمساعدات-حول ما يتعلق ويطرح في أدبيات الاقتصاد ،والمعنيّ بالحد من الفقر ،الذي بات يتخذ شكلا من أشكال الخداع الحنون لفقراء العالم والذي يستتبعه صفعة قوية إلى حد قتل كرامة الإنسان الفقير وإذلاله بلا أي مبرر أخلاقي ، بل يصل إلى اغتياله ..
فلو رصدنا التحركات الدولية في السنوات الأخيرة في إطار تقديم المساعدات وتحديدا التعهدات التي قدمتها دول الثمانية كمحاولة لمضاعفة المساعدات الخارجية الموجهة لإفريقيا وجنوب اسيا ، بالإضافة لمخططات الأمم المتحدة والبنك الدولي الرامية إلى الحد من الفقر بحوالي النصف بحلول عام 2015،حسب تطلعات خبراء الاقتصاد في العالم ،وأيضا لو تتبعنا ما يبشر به جيفري ساش أستاذ علوم الاقتصاد ومدير معهد الأرض بجامعة كولومبيا ومدير مشروع الألفية الذي ذهب بتفاؤله إلى أبعد المسافات ، حيث صرح متفائلا حول نهاية الفقرعن البشرية بحلول 2025 ، قائلا : إنها أسهل مما يبدو..!!
ولو تابعنا أيضا رصد الأماني التي يطلقها ساسة أكبر دول العالم وتصريحاتهم الوردية بشان مكافحة الفقر ونشر الديمقراطية ، كل هذا وما قبله يجعلنا للوهلة الأولى نعتقد أن ثمة تحرك عملي حقيقي للحد من انتشار وتفاقم الفقر وتخفيف آثاره المدمرة في عالم الجنوب . ولكن إطلاق التصريحات المتفائلة هذه تحمل في طيّاتها مخاطر من شانها إرضاء الضمير العالمي وتخديره ، من حيث أن هنالك من يقوم بالمهمة في سبيل التخفيف عمّن يعانون الحرمان والفاقة والعوز والمرض ، وبالتالي تثبط من مشاعر المسؤولية الإنسانية تجاه بعضنا البعض ،إضافة – وهو الأخطر- إلى أن المجتمعات الفقيرة التي تنتظر المساعدات الخارجية ، تفتقد إلى برامج ومشاريع من شأنها تطوير الذات بغية الوصول إلى الاعتماد على الذات ، بل وللأسف الشديد تتحول إلى سلبية الفعل ، تقف دوما على مستوى انتظار تحقق المعجزات الخارجية. مستثنية بالطبع المساعدات العاجلة في الحالات الإسثنائية والطارئة في حالات الكوارث الطبيعية .
كما نلحظ أيضا عند الحديث عن المساعدات الخارجية أو الأجنبية ، النقد الشديد بين أوساط الاقتصاديين حيث أن غالبية المقترحات التي يتم تقديمها بغية اجتثاث الفقر أو الحد منه ليست بجديدة ولا تحمل أفكارا واقعية ، وإنما هي أفكار قديمة كانت تروج في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين أثبتت فشلها آنذاك ، ولكن أعيدت صياغتها اليوم وبمفردات جديدة مما يعطي انطباعا على أنها من منظور وواقع ومستجدات العصر..
إن الواقع مؤلم للغاية ، واسوق مثالا ليس إلاّ حول الدفع الذي ما زال جاريا إلى اليوم وقد نتج عنه انتقال 568 مليار دولار من المساعدات الخارجية من الدول الغنية إلى القارة الافريقية كأكثر المناطق المتأثرة بالفقر ، كان معدل النمو فيها يساوي الصفر بالنسبة للدخل الفردي ، وهذا ما يؤكد عدم جدوى هذه المساعدات بالشكل الحالي بل ثمة خلل واضح في تطبيقاتها الحالية ، والذي يفجر سؤالا أخطر يروح حول أموال المساعدات التي بلغت قيمتها 203 ترليون دولار اين راحت هذه الأموال وكيف تبخرت من بين أفواه الفقراء ..؟؟
من المؤسف القول أنها علقت في ممرات ودهاليز الفساد والبيروقراطيات و تمويل الحروب العبثية .. ولو رصدنا البيروقراطية نلحظ أن أموال المساعدات قد أهدرت - قبل وصولها البلدان الفقيرة - في طيّات المخططات البالغة التعقيد لمنظمات كبرى تعاني من البيروقراطية المفرطة ، كالبنك الدولي أو أروقة ومؤسسات ودوائرالأمم المتحدة مثلا، وبالتالي أخفقت هذه المؤسسات في إيجاد حلول واقعية وعملية لكل مشكلات الفقراء مرة واحدة لأن هذه المؤسسات أصلا غير قادرة على حل مشكلات بيروقراطيتها..
ومن المؤسف قوله أيضا أن أموال المساعدات التي تعبر ممرات بيروقراطية المانحين ، سرعان ما تعلق ببيروقراطية أخرى في البلدان الفقيرة التي نطالبها بتطبيق التخطيطات الشديدة التعقيد التي وضعها بيروقراطيون غربيون ، كنقص فادح في أعداد الموظفين المهرة القادرين على تنفيذ مخططات معقدة لم تعد قابلة للتطبيق اصلا ، وغيرها الكثير من التعقيدات البيروقراطية والتخلف الإداري .أما في أسوأ الأحوال - وهي الأكثر انتشارا وتعميما في المجتمعات الفقيرة - فإن بيروقراطيي هذه البلدان يعانون الفساد السياسي وتسلط النظم الديكتاتورية ..وبالتالي هؤلاء ساهموا بشكل مطلق في ترسيخ الفقر .
إن البيروقراطيين وعبر ما يسمى بالمساعدات الخارجية لم ولن يصلوا إلى وضع حد لأشكال الفقر أبدا . وإذا كنا نلحظ بعض المؤشرات التنموية وتخفيف الفقر في بعض البلدان كما تشير المؤشرات في بعض مناطق شرق وجنوب آسيا ، فإنما ذلك بفضل جهود الإصلاحيين السياسيين والاقتصاديين الوطنيين المحليين .
إن واقع الفقر بكل تجلياته وأثاره الأليمة يحتم إثارة الجدل عالميا بما في ذلك دول الجنوب لمناقشة كل الاحتمالات المتوقعة في حال توقف وكالات العون الدولية عن حملات إنهاء الفقر غير الواقعية في أي لحظة بسبب ظروف ما ، قد تستجد على الساحة الدولية .والحوار أيضا وبشكل عملي في إمكانيات تخصيص المزيد من الوقت والمال لتحديد مهام خاصة ومحددة من شأنها مساعدة الناس فعليا لمواجهة مشكلات مثل الأمراض المنتشرة بين الفقراء ،و توفير جرعات من دواء الملاريا لضحايا هذا الداء على سبيل المثال لا الحصر ، وتوزيع جرعات لعلاج الجفاف للحد من وفيات نحو 1.8 مليون طفل قد ماتوا في العام الماضي بسبب الجفاف ، وتوفير الماء الصالح للشرب ، وتوفير البيئة التعليمية المناسبة كأحد أبرز عوامل مجابهة الفقر ، وتشجيع التغيير التدريجي لقوانين التجارة بهدف تبسيط عملية إنشاء الشركات، وخلق مناصب شغل وعمل للفقراء.
بمعنى لابد من وضع مجتمع الفقراء بمستوى آخر من حيث التفاعل والخروج من منطقتهم إلى منطقة جديدة أفضل وأكثر وعيا من سابقتها ، لا العكس كما هو حاصل اليوم فقد ارتفع عدد المتضررين من الجوع بواقع 60 مليون شخص عما كان عليه قبل عشر سنوات.
والمأساة تروح الى أن عدد المهددين بالموت جوعا في ازدياد مقابل انخفاض المساعدات الغذائية التي شهدت نقصا من 15 مليون طن إلى نحو 5ر7 مليون طن في العام الماضي ..! نضيف على ذلك أرقاما بعد لم تدخل النسبة من ناتج آلة الحرب والدمار في كل من العراق وفلسطين . وربما لا يجوز لنا أبدا تجاهل انتشار الايدز بشكل مرعب بين أوساط الدول الفقيرة بطريقة تنبئ بكارثة ..
والحديث بهذا الواقع يأخذنا بمرارة إلى حيث مأساة الأطفال . فالتقارير تشير على أن النزاعات المسلحة حول العالم تسببت في إصابة الملايين من الأطفال بإصابات بالغة وعاهات دائمة، فيما تعرضت ملايين أخرى إلى العنف الجنسي والجوع والصدمات النفسية والأمراض التي تسببت بها الحروب.ومع ذلك لم نجد رغبة حقيقية لإيقاف النزاعات والحروب لدى الأطراف المتنازعة ولا للمجتمع الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ولكن هذا لا ينفي أبدا مسؤولية المجتمع الدولي المتقاعس أصلا في الإيفاء بالتزاماته نحو عالم خال من الجوع حسب ما هو مخطط لذلك .
ويأتي تقرير اليونيسيف كأحدث تأكيد على إخفاق الأمم المتحدة بمؤسساتها في الوفاء بأحد "أهداف الألفية الإنمائية" وهي ثمانية أهداف كانت قد قطعتها المنظمة الأممية والمجتمع الدولي عام 2000 لنشر التنمية وخفض معدلات الفقر والجوع حول العالم. ولكن وبعد مضي ست سنوات تقول تقارير الأمم المتحدة إن أكثر من مليار شخص حول العالم ما زالوا يعيشون على أقل من الدولار في اليوم . وبالتالي إن تحسين ورفع المساعدات يظل دون مغزى دون توفير فرص عادلة في التجارة العالمية حيث تخصص الدول المانحة مليار دولار سنوياً لدعم الزراعة في الدول النامية فيما تخصص في المقابل مبلغ مماثل يومياً لدعم مزارعيها . علما ان هذه الزراعة في غالبيتها ليست تغذوية ومنفصلة للأسف عنها ن وذلك بسبب تدخلات البنك الدولي وآراءه الخاصة التي ثبت عدم جدواها ، بل كانت سبب من أسباب إصابة مناطق شاسعة زراعية بالمجاعات ..
بل ان الواقع المؤلم يعيشه الأطفال وهم الحلقة الضعف وسط فقر وحرمان وجوع وفوق كل هذا أجواء من عنف مسلح يقترن بالقتل والخطف والتفجيرات في اية لحظة، بينما التريليونات تروح للتسليح ..!!
ربما الأمر المؤلم لما نطالع احصائيات الأمم المتحدة التي تقول انه في كل دقيقةٍ تمر، يُقتل إنسان من جراء العنف المسلح وتصنع 15 قطعة سلاح جديدة لتُطرح للبيع.! فمن ذا يتحمل المسؤولية ؟ ومن المسؤول عن ازدهار هذه التجارة القاتلة وخروج تجارة السلاح عن نطاق السيطرة؟؟ بالمقابل تدهور وازدياد الفقر في العالم إلى درجة أنه في كل ثانية من عمر البشرية يتم فيها فقدان طفل بريء بسبب الجوع والأمراض المتصلة بالجوع ، مما يعني ان 18ألف طفل يوميا يتوفون كان من الممكن أن يضيف هؤلاء الصغار للحياة قيمة ومعنى..
أعتقد ان نهاية الفقر ربما تكون كما قال عالم الاقتصاد جيفري ساش هي أسهل مما يبدو، لو تم النظر اليها بمنظور أخلاقي إنسانيّ وخارج أروقة ومنطق وجيب القتلة. وهذا مناط بدرجة تفتح وعينا واحترامنا لذاتنا وفي نظرتنا الإنسانية تجاه بعضنا البعض وخارج إطار الولاءات المدمرة ، وهذا ما سيأخذنا إلى أعلى درجات استجماع قوى وطاقات الذات في شجاعة فريدة لمواجهة السياسات الظالمة ..
الفقر اليوم مرادف لآلام الطفولة المستباحة بصمتنا الأخرس وجبننا عن الدفاع عمن بعد لم يمسكوا زمام أنفسهم وربما لن تتاح لهم الفرصة ابدا ..
للأسف لم تعد الطفولة تقتصر على التغني بالمستقبل الأفضل ، إذ أن الحروب التي تجتاح العالم بلا رحمة أصرت على أن تترك أثرها على أجمل شيء في هذا الكون : الأطفال.
الأطفال الذين يبلغ عددهم حاليا في العالم 2.2 مليار طفل، يعيش في الدول النامية منهم 1.9 مليار، ويعيش منهم مليار طفل في حالة فقر مدفع يصل حدّ الهاوية ، أي أن طفل من بين طفلين في العالم ينازعه الموت ويئن اللحظة جوعا وعطشا وخوف ..!!!
فلا تتساءلوا عن شهقة الكون لبكاء الجوعى المظلومين ، فنحن مشاركون في التنكيل بالنفس وهذه الجريمة العالمية ، كلنا بلا استثناء ..
الكاتبة واعلامية اردنية
ملاحظة :مصدر الأرقام من تقارير هيئة الامم المتحدة .