يزن .. حين تدفع الطفولة ثمن الاخفاق
سامر حيدر المجالي
21-04-2009 03:31 PM
إذا كان يزن ، الطفل الغض في ربيعه الخامس ، قد فقد حياته معذبا منكلا به ، طريح سكتة دماغية أعقبت عددا هائلا من الكدمات وحروق أعقاب السجائر التي لم ترحم جسده الطاهر ، فأحرى بالمجتمع كله أن يدرك حجم الهوة التي يتردى فيها وفداحة الخطب الذي أصابه .. الخطب الذي تؤيده شواهد متتابعة ، ليس يزن أولها ولن يكون آخرها .
العجيب ، وهذا طبيعي على كل حال ، أن المذاهب الشتى في تفسير الذي جرى ، وسوف يجري ، تلتقي في خاتمة المطاف ، فتحمل الوزر وذنب العنف المتصاعد بمعدلات جنونية ، للظروف الاقتصادية وشح الموارد وانكماش الدخل في ظل ارتفاع الأسعار وتزايد معدلات الاستهلاك . هذا الكلام ليس خاطئا البتة وهو يبدو منطقيا إلى ابعد حد ، وقد يرضي أدمغتنا التي ركبها الوهن وذهب بها الجبن والخور كل مذهب ، لكنه في نهاية المطاف لا يقدم سوى وصف رقيق ناعم الحواشي للذي يجري ، مبتعدا طوعا أو كرها عن بيت القصيد ، وعن ورود المورد الصعب ، الذي عنده قد ندرك بعضا مما يجري لنا ، أفرادا وجماعات .
لا تبتعد قضية يزن بحال من الأحوال عما نشاهده من ارتفاع في معدلات الجرائم ، القتل والانتحار والسرقة والفساد وعنف الجامعات وضراوة الخلافات العائلية والعشائرية قبيل مواسم الانتخابات أو بعدها ، وفقدان الضبط والسيطرة ، وتكفير الآخرين واحتكار الحقيقة ، واختزال مفهوم الوطنية في شعار أو أغنية أو دبكة ، وعنف الملاعب ، وتقوقع الطوائف والجماعات وراء شعارات بالية وكلام كبير ، بالاضافة – وهو قد يكون الأهم – الى فقدان البوصلة وتفكك الهرم الاجتماعي والسياسي الذي أفرز حالة أشبه ما تكون بمرض تعدد الشخصيات ، حيث لا ترتبط الأشياء بقيمتها الموضوعية ، وإنما تخضع خضوعا مطلقا لحسابات الربح والخسارة ، وترتبط بمعايير الغلبة وعزة الإثم ، والابتعاد في أحيان كثيرة عن الشر قدر ما يكون إلى ذلك استطاعة .
سأزعم على مسؤوليتي الشخصية أن المواطن العربي هو أكثر أصناف البشر كبتا وتحملا ، وأقل الناس علما بالذي يحدث له في داخله نتيجة هذا الصبر والتحمل . يكبت على مستويين .. مستوى يعرفه الجميع تسببه الصعوبات الاقتصادية والإخفاقات السياسية ومناظر الدماء وأشلاء القتلى من إخوته وبني جلدته . ومستوى آخر خفي ، لا يقل عن الأول ضراوة وتأثيرا فيضرب في أعمق الأعماق ، انه ( الكبت الناعم ) الذي يتراكم يوما بعد يوم . حوادث صغيرة هنا وهناك ، يجمعها شيء واحد ، قلة القيمة ، أي قيمة الإنسان في وطنه ، وانحطاط أهميته ، وعجزه عن أن يشارك في اتخاذ القرار ، وتموضعه في أسفل سافلين ، رقما لا يقدم ولا يؤخر وليس له نصيب من الإنسانية إلا ما تفرضه الاعتبارات البيولوجية المحضة ، التي تغادره ركاما من اللحم والدم ، والعري النفسي والجوع الأخلاقي .
هنا تلتقي السياسة بالاقتصاد ، والتاريخ بالاجتماع ، والبيولوجيا بالأفكار ، ويزن بعذاباته ، فيشتد إحكام القبضة ، ويغرق السجين في ظلمته ، فتعشى عيناه بالنور إن لاح من بعيد ، ويصبح الذل مدعاة للافتخار ، والحقيقة باطلا وسذاجة . عندئذ فقط يلتقي الكبت الناعم بدبيب النمل الذي أورده الحديث النبوي الكريم وصفا للشرك الخفي ، الشرك الذي يعلو فيه من يعلو إلى فوق مقام الآلهة ، ويسفل فيه من يسفل إلى ما نصون أسماعكم عن ذكره .
نتيجة هذا كله ، عنف مبرر ، وكذب مبرر ، وغش مبرر ، وتجاوز للقوانين كلما سنحت فرصة أو لاحت لائحة . إنها الدفاعات الطبيعية التي يفرضها صراع البقاء حين تفقد كل الأشياء معناها ، ويغرق المجتمع في الكذب . كذب يحاصره من فوقه ومن أسفل منه ، مصداقا لقول الحكيم الذي قال ذات يوم : إننا نعيش فوق بساط كبير موشى بالكذب والدجل .
المجتمع إنسان كبير ، تفرز خلاياه التي هي أنا وأنت وذاك وتلك ، ما يعتمل فيه من علل وأمراض . لذلك لم تكن قضية يزن قضية شخصية ، ولا حادثة جيهان حادثة فردية ، ولا جريمة أبو علندا خروجا على النص . هذه الأحداث المتسلسلة وغيرها الكثير علامات مؤكدة على مشكلة حقيقية يعاني منها الجسد ، فتنخره في صميمه .
يزن ضحية أخرى ولن تكون الأخيرة ، وربما تكون حادثته نتيجة حتمية لتآكل الطبقة الوسطى كما يقول الكثيرون . لكن البلاء لا يكمن فقط في العوامل الاقتصادية ولا في مظاهر الفساد المنتشرة هنا وهناك ، ولا في الأجهزة الرقابية والتشريعية العاجزة عن أداء رسالتها والغارقة حتى الثمالة في أنانيتها ومصالحها الشخصية . هذه الأشياء ليست أكثر من مظاهر لبلاء أخطر بكثير ، وأدعى لمحاسبة أنفسنا بدلا من مجرد الوقوف عند الظواهر . البلاء يكمن هناك على مسافة قريبة من كل واحد منا ، هو شريك ومسئول عن الجريمة التي هزت معنى الإنسانية وضربتها في أطهر جوانبها ، الطفولة والبراءة ، فكانت وستبقى الضحية الحقيقية والخاسر الأكبر .
Samhm111@hotmail.com