سألت أستاذا جامعيا معروفا ومتخصصا في علم الاجتماع: هل لدينا بحوث علمية معتبرة ترصد التحولات النفسية والاجتماعية والقيمية التي أصابت الشخصية الأردنية وغيرت أنماط تفكيرها وسلوكها كما نجد ذلك في دول قريبة نشطت مراصدها الاجتماعية البحثية في هذا المجال؟.
قال لي: لا يوجد في مكتبتنا “الوطنية” كتاب واحد عن “الشخصية الاردنية”، أما الابحاث التي تقدم في جامعاتنا حول هذا الموضوع فقليلة، وهي لغايات “الترقية” فقط، ثم اضاف: اتذكر بأنه عرض عليّ قبل سنوات بحث واحد، وقد اتفقت لجنة التحكيم على رده لأنه لا يلبي الشروط العلمية.
غياب البحث العلمي الاجتماعي عن تقديم التشخيص لكثير من الظواهر التي طرأت على مجتمعنا، وعن تقديم الاقتراحات والحلول الممكنة لها، ترادف - أيضا - مع غياب لدور الحكومات في وضع هذا الملف على قائمة أولوياتها، فالوزارات التي أنشئت “للتنمية الاجتماعية” اختزلت مهمتها في مواجهة قضايا محددة، وبآليات تقليدية: الفقر مثلا، والحالات الانسانية والمساعدات والمعونات... الخ، اما الوزارات المعنية بالتوجيه والتربية وترشيد الوعي الديني والثقافي فقد ظل خطابها - كما هو - ولم يستطع - للاسف - اقناع “الاجيال” الجديدة من الشباب ولا ان يؤثر فيهم، لنجد انفسنا بالتالي امام قيم جديدة لم تلد بالشكل الطبيعي من سياقاتنا الدينية والثقافية، وامام سلوكيات لم نعهدها حتى في بداية تأسيس الدولة، وامام حالة عامة من الشعور بالاحباط، وشيوع ثقافة “الانتقام” وامتداد وتنامي ظاهرة “العنف”، وهذه كلها امراض اجتماعية اصابت انفسنا اولا، وقوّضت امن مجتمعنا ثانيا، واجهزت على مفاهيم الحداثة والعقلانية التي تصورنا - للحظة - اننا امسكنا بها.
كيف نشأت هذه الانسدادات الاجتماعية، ولماذا؟.. هذا يحتاج الى مراصد اجتماعية تكشف لنا عن الحالة، تشخيصا ووصفا، وتقدم لنا ما يلزم من اقتراحات لحلها، ويحتاج - ايضا - الى مقررات واجراءات حكومية ومجتمعية لتطويقها ووضع البدائل الممكنة لتجاوزها.
ومع ذلك، دعونا نجتهد في ذلك ولعل اول ما يخطر الى البال اننا مجتمع “متدين” بمعنى ان الدين هو الباعث الاول لقيمنا وسلوكنا، لكن هل استطاع “تديننا” ان يساهم في بناء هذه التحولات التي طرأت على قيمنا ومسلكنا، او في تحصيننا من الانحراف والانجراف واليأس وغيرها من الامراض، الجواب بالتأكيد معروف، فانماط التدين التي يمارسها شبابنا للاسف لم تسعفهم في تحقيق ذلك، والاسباب مفهومة.. اما من يتحمل المسؤولية فهي مراصدنا الدينية التي اشرنا سلفا الى ان خطابها لم يتطور تبعا للتطورات التي حدثت في مجتمعنا وعن قوله أيضا، والمسألة لا تتوقف عند قيمة التدين المغلوط، وانما ثمة عقلانية مغشوشة وثمة تعبئة سياسية وفنية مبالغ فيها، هذه الاخيرة تحشد طاقات الشباب وترفع وتيرة حماسهم نحو هدف مجهول، وحين يريدون تفريغ هذه “الطاقة” لا يجدون الا “العنف” طريقا لها. التعبئة هذه من اسوأ وسائل التحريض، ونحن للاسف نمارسها في خطابنا الديني، والفني والسياسي. دون ان ننتبه الى مكان تفريغها.. ومآلات انفجارها، والقنوات المناسبة لايصالها للهدف المطلوب.
باختصار، ثمة “فراغ كبير يقف وراء ما نعانيه من مشكلات وانسدادات اجتماعية، سواء تمثلت هذه المشكلات بالعنف او الانتقام او الانسحاب من العمل او الامراض النفسية او الجنوح للانتحار.. الخ، هذا الفراغ لا يقتصر على غياب “العلم” وبحوثه، ولا المؤسسات ومقرراتها واجراءاتها، ولا المجتمع بمؤسساته البديلة، وانما يتجاوز ذلك الى “غياب” الفكرة الموّحدة، والقيمة الفاعلة، والنموذج الحيّ، والانشطة المحركة، والرموز الملهمة، والمرجعيات المعتبرة القادرة على الاستيعاب والاحتواء والتأثير، وقبل ذلك الخطاب العملي القادر على اقناع الشباب “تحديدا” والتأثير فيهم، سواء أكان هذا الخطاب دينيًا أم علميًا أم سياسيًا.
في العادة، هذا الفراغ يبحث عمن يملؤه “لا تسأل” كيف”، ويولد الاحباط، ويدفع الى التزاحم، ويغذي “الهوى” داخل النفس ويعيق مرور “شحنات” الطاقة الفاعلة، بما تحتاجه من قيم فاضلة، ويكدس الشعور بالانكفاء او الافراط، بالحماسة... وهذه تكفي لانتاج ما هو أسوأ من العنف.. هذا الذي يعاني منه مجتمعنا الآن.
الدستور