عندما نَحُسّ بأنّ مَنْ كانّوا يفهموننا من نظرات عيوننا وجَمَعَتْنا معهم ذكريات جميلة قد باعوا كلّ اللحظات وتاجروا بالنكران والجحود، يبقى الصمت هو المخرج من هذه القصة الكئيبة، عندما نرى أنّ من كانّوا أقربَ الناس إلينا قد ألِفوا البعدَ عنّا، يكونُ الصمتُ هو الحصنُ الحصينُ والكهفُ الذي نلوذُ إليه خوفاً من صخبِ البوحِ وضجيجِه، هو الرّدُّ الذي يحوي كلّ اللغات... نلوذُ بالصّمتِ نطوي في الحشى الكَمَدا، والليلُ ضاربٌ بجثمانه يسترُ دَمعَ العينِ والرمدا، نلوذُ بالصّمتِ لأننا لم نعد نتحمل المزيد من الهراء، ننسجُ من خيوط الصمتِ قصيدة من الكلمات المبعثرة نستخدمها وقتَ الحاجة..
فضّلنا الصمتَ عن الأشياء التي باتت تؤلمنا وأصبح الانسحاب هو أجمل شيء نقدمه لمن خذلنا، ارتمينا في حضن الصمت لأن الكلمات أصبحت سجينة، ولأنني صرتُ كتاباً لن يقرأه أحد!
فضّلنا الصمتَ لأنّ الصمتَ لغةُ الحكماء، لأن الصمتَ رياضةٌ فكريةٌ تحفظُ التوازن وتجعل المرء يعود الى ذاته الداخلية ويقترب من نفسه بعيدا عن الأفكار المتزاحمة داخل عقله...
عندما نُجرَحُ ممن نحب ونضحّي من أجل من لا يضحّي من أجلنا وفي النهاية نُصبحُ في قفص الاتهام، يبقى الصمتُ هو سيدُ الموقف،
حين يكونُ الزمانُ ليس زمانُنا، والاشياء من حولنا لم تعد تشبهنا، وحين نشعر بأن كلماتنا لا تصل، وأن مدن أحلامنا ما عادت تتسع، هنا يكون الرحيل بصمت هو أجمل هدية نقدمها لأنفسنا، كي نختصر بها مسافات الألم والإحباط والفشل.
لقد بدأتُ أدرك أنه بالصمتِ استطعتُ أن أختصر الحدود والمسافات، وأنه من الممكن الاستماع إلى الصمت والتعلم منه، الأذكياء وحدهم يعلمون اليوم أن الصمت خير من الكلام، ذلك لأنه ذو جودة عالية وإشعاع خاص وشعورٌ مفعمٌ نبيل وارتقاء لم تبلغه بعض العقول، وله أبعاد منفردة ببلاغته ورياضته وحجته وهدوئه حين تتعطل لغة الكلام، بالصمت أستطيع أن أعودَ الى ذاتي الداخلية بعيداً عن الأفكار التي تملأ عقلي المكتظ بكلمات كثيرة لا استطيعُ أن أقولَها. فأنا أجدُ نفسي فجأة في هذا العالم كما لو أنني قد وصلت للتو قادما من كوكب آخر ولا يعرفني أحد.