عمون - على غلاف الصحيفة الأسبوعية الأكثر شهرة في دراساتها السياسية ونقلها ريبورتاجات مختلفة من دول العالم الأكثر سخونة والأشد خطورة على الغالب، تطالعك صحيفة ( كورييه أنترناسيونال الفرنسية بعددها 856 وغلاف يحمل لون الموت الأصفر المائل للغبار البرتقالي..وصورة للمرأة الشبح بعباءتها تقطع شوارع شبه مهجورة إلا من ألوان الموت وصانعيه.لقد كان عنوانها الرئيس لهذا الأسبوع متعلقاً ببغداد.." الحياة في بغداد... أين المفر؟!".
يعج العدد بمواضيع شتى من مختلف الكتاب والمصورين، ومن خلال نوافذ مختلفة للرؤيا والقراءة، لكن جميعها دون استثناء ..ترسم الموت بالأسود والرمادي ..ترسم حياة العراقي..في بلد كان أهله الأكثر ثراء وبحبوحة عيش..داخل عاصمة الرشيد، التي أطلق عليها ذات يوم " مـــدينــــــــة الســـــــلام".
سنوقظكم من سباتكم..إلى حي من أحياء بغداد المهجورة ...وسندور بيوت هذا الحي بيتاً بيتاً..هذا ما فعله كاتبي ومصوري الموقع طبوغرافيا بالكامل وبالرسم الدقيق للحي وبيوته وشارعه الرئيسي...قام كلا من الصحفيين " أيلانا أوزرنوا و علي حمداني" بالبحث والدراسة على الأرض ، وكل ما أستطيع تقديمه هو ترجمة لما ورد على لسانهما في هذه الصحيفة:ـــ
موعدكم إذن مع " حي سعيدية" ، وقد رسم أمام كل بيت دائرة إما باللون الأحمر وهذا يعني أن البيت هجر من أصحابه ويسكنه آخرون، أو بالبرتقالي ، وهذا يعني أنه فارغ ومهجور...لكننا سندرس هذه البيوت ...ونتعرف على أهلها..من هم؟ ..وما نوع عملهم...وإلى أي فئة من الناس ينتمون ( مذهبياً) ، ولماذا هجروا بيتهم ..أو أجبروا على هجره؟ ..ثم إلى أين رحلوا ؟
لكن قبل جولتنا ...سنعطي لمحة موجزة عن الحي ومم يتألف سكانه وكيف كانوا يتعايشون؟.
انه حي برجوازي يمتد على ضفتي شارع عريض تحف به أشجار النخيل، مكون من مجموعة من الفيلات القرمزية بعضها بحدائق من حشيش أخضر، والأخرى تتخفى خلف جدران من أعمدة خشبية.
عند الاجتياح الأمريكي، كان يأوي الحي مجموعة من الأشخاص من مختلف المناطق والإثنيات، وهذا جانب حسن نسبياً. حكومة صدام حسين قدمت مجموعة من هذه البيوت لبعض ضباطها، لكن المجموعة في الحي تضم أيضاً عائلات مدنية شيعية وسنية. يقطع الحي شريان تجاري: النساء والرجال الذين يعيشون فيه يلتقون غالباً حتى أوقات متأخرة من الليل.
اليوم، عدد من المحال مغلق، والعديد من البيوت مهجورة، بينما تبدو الشوارع فارغة..(.هذه الصورة المبينة أعلاه )، ويقصد بها الموجودة في الصفحة رقم " 38 "، تظهر شوارع الحي في نهاية عام 2006 وتبرز بوضوح مقدار ما تعرض له من عنف تحمله أهل الحي خلال العامين السابقين. العديد من العائلات التي كانت تقطنه أثناء حقبة صدام حسين رحلت.
سنأتي على البيوت ونبدأها حسب التسلسل الرقمي :ـــ
1 ــ البيت الأول ، ما زال يسكنه صاحبه السني ، رجل الأعمال، مع عائلته المكونة من ستة أفراد، في ربيع العام 2006، اختطف حفيده ابن الأربعة أعوام، بعد فدية اضطر لدفعها ومقدارها 20 ألف دولار، أعاد الخاطفون الطفل مع ورقة مالية كتبوا عليها اعتذارهم قائلين" نأسف على ما فعلنا، نحتاج النقود كي نتمكن من ترك البلاد"!.
2 ــ البيت الثاني فارغ من السكان، كانت تقطنه عائلة سنية تملك مؤسسة لمياه معدنية ، وتدير هذه المؤسسة من البيت نفسه، ولأن العائلة ناجحة في أعمالها، تعرض أحد أبنائها وعمره 23 عاماً للخطف ثم للقتل، رغم أنهم دفعوا للخاطفين فدية مالية قدرها 70 ألفاً من الدولارات، رجل الأعمال هاجر وترك البيت والمؤسسة، لأن ولده الثاني تلقى تهديدا بالموت!.
3 ــ البيت الثالث ، تقطنه عائلة شيعية، استقرت في المنزل ودفعت أجره بعد مغادرة أهله له، هذه العائلة رجلها كان وزيرا قديما من وزراء صدام السابقين، رحل إلى الأردن مع عائلته في نيسان 2004 بعد أن وصلته أنباء أن احدى عصابات الموت الشيعية قد وضعته على لائحتها السوداء!.
4 ــ البيت الرابع فارغ، يحرس بين فينة وأخرى من أقارب بعيدين للمالك، وهو ضابط برتبة جنرال في الجيش العراقي عمره 57 عاماً، ألقت القوات الأمريكية القبض عليه ثم أطلقت سراحه عام 2005، وبعد ها على الفور غادر العراق ملتحقا بولديه في لندن.
5 ــ مأهول ومحروس من عائلة سنية، كانت تقطنه سابقاً عائلة، هاجرت إلى سوريا بعد اختطاف ابنهم البالغ من العمر 29 عاماً، من قبل ميليشيا شيعية ثم تلاه محاولة اختطاف أخرى للأم ، استطاعوا تحرير الابن بعد دفع فدية قدرها 10 آلاف دولار.
6 ــ أيضاً مأهول من قبل عائلة سنية ثرية، خطف الابن عام 2005 من ميليشيا شيعية تنتمي للسيد مقتضى الصدر وطالبتهم بمبلغ شهري يعادل 10 آلاف دولار كخوة مقابل " حماية العائلة"، يحرس البيت اليوم من قبل مجموعة تابعة لمؤسسة خاصة.
7 ــ فارغ ، سابقا كانت تقطنه عائلة شيعية مؤلفة من سبعة أشخاص، الأب يقدم وجبات غذائية للأمريكان، وصله تهديد بالموت، باعتباره عميلا ، كما نجى من محاولة للاختطاف، هربت العائلة إلى الأردن عام 2005، ظل الأب في العراق لكنه يعيش اليوم في المنطقة الخضراء.
8 ــ فارغ أيضاً، كانت تسكنه عائلة تقرب صدام حسين قرابة بعيدة، ضابط كبير في الحرس الجمهوري مع عائلته، تسلم تهديداً بالموت، تعرض أحد أبنائه للرش بعدة طلقات، مازال على قيد الحياة، غادرت العائلة مهاجرة إلى دبي عام 2006.
9 ــ فارغ أيضاً، كانت تسكنه عائلة دبلوماسي يمني، بعد مقتل السفير المصري، وبعض الدبلوماسيين المغاربة عام 2005، نصحه بعض جيرانه بالمغادرة ، لأنهم يخشون من إثارة اهتمام تنظيم القاعدة.
10 ــ فارغ، كانت تسكنه عائلة لبنانية، عاشت فيه منذ 27 عاما، في بداية ال 2006 اقتحمته وسرقت محتوياته، مجموعة مقنعة من البوليس، قامت أيضا باعتقال ولدين من أبناء العائلة كما صادروا كل الأموال التي وجدوها معلنين أنها ستستغل من أجل تمويل القاعدة. هربت العائلة إلى لبنان.
11 ــ فارغ، تقطنه سابقا عائلة سنية، الأب من قياديي حزب البعث الهامين، تسلم تهديدا بالموت من ميليشيا شيعية ، هربت العائلة إلى سوريا عام 2005، صودر البيت فيما بعد من قبل الحكومة العراقية.
" إلى هنا وتنتهي الترجمة، لكن اسمحوا لي بعد هذا الاستعراض بتعليق صغير على الوضع والصورة المأساوية ليس لهذا الحي فقط ، بل لأني متيقنة أن هناك أحياء جرى لها أبشع مما جرى لأهل هذا الحي"
أولاً ، أني آسفة أشد الأسف لهذا التقسيم على أساس الانتماء المذهبي الوارد في المقال موضوع الدراسة، لكن يبدو أن الأمر غدا اليوم لعبة مسلية للبعض كما أنه واقع مؤلم وموجع لمن عاشوا قروناً في وطن يجتمع أهله على أساس الانتماء...كانت المشكلة تتعلق بصدام ونظامه الديكتاتوري التمزيقي والقابض على الوضع بيد من حديد، لكن خلفاؤه ليس من الأمريكان فقط ، بل من أبناء العراق مارسوا أبشع عشرات المرات مما فعله صدام...الأمريكان محتل ودولة غريبة، لكن المالكي والطالباني والبرزاني، وشيوخ القبائل السنية والقاعدية، والملات الشيعية من سيستاني وصدر وحكيم وميليشياتهم التي تسيطر على الأحياء والشوارع وتعبث باللحمة الوطنية، ما الذي تسعى إلى إثباته بعمليات التفرقة والقتل والاغتيالات على أساس الهوية المذهبية؟!، هل هي جريمة المرء أن يخلق ويولد في عائلة حملت هذا الاسم أو صلت في الحسينية أو المسجد أو الكنيسة ؟..هؤلاء هم أثرياء الحرب الجدد، سواء بما يسرقونه من أموال البيوت والشعب والبترول المهرب ، أو بما يتمتعون به من سلطات تقوم على دويلات وحواري غير آبهين للعراق التاريخ والتراث والوحدة والأرض والشعب...إذن المشكلة في المواطن نفسه وتوعيته كي لا يغرق في تنظيماتهم ويخرج من شباكهم واستقطاباتهم، ولا يبحث عن مكاسب آنية وحماية تدوم بضعة أيام ، ودون أن يصغي السمع للخطب الرنانة التي تلهب فيه الحماس المذهبي وتشحن فيه الحقد الأعمى لصديق الأمس وجار العمر وزميل العمل والدراسة، أعتقد أنه ليس صعباً على من يملك العقل ويستوعب ولو ببساطته الطبيعية وإحساسه الوطني كعراقي أصيل...يكفي أن يلغي التواصل مع هؤلاء..يكفي أن يعلن ايمانه للرب الواحد دون ألوان ..أن يصلي في بيته..فباعتقادي أن الله موجود في كل مكان..وهو الأقرب للقلب والاحساس الصادق، ولن يسمعك أكثر حين تكون بكربلاء لاطماً ..أو محدثاً كل جروح الألم في صدرك وظهرك ندماً على ما فعله أجداد أجداد أجدادك من إثم لا علاقة لك أنت وعائلتك به...وهل يحاسبك الله على إثم اقترفه الآخرون؟...هل لو صليت بمكة...ستكون عيون وآذان الله أقرب إليك ..لأنك تعلم مسبقاً أن مكانه هناك فوق مكة بالذات؟ ..ثم لو زرت القدس ..وليس بإمكانك أن تفعل لوجود الصهاينة فيها... فهذا يعني أن إيمانك ناقص وعبادتك غير مقبولة ولا تصل لرحاب الله؟..هل صلاتك في كنيسة مار جرجس ..أو سيدة حريصا..أو كنيسة المهد...أو أي كنيسة صغيرة...تتعرض لعقبات وتعرجات في صعودها السماوي ..وربما تطرق باب الجنة ثم تعود أدراجها ..ويمنعها رضوان من الدخول ..أو يرفض ربك إيمانك كونك فقيرا ولا تملك ثمنا لحج أو زيارة لبيت مقدس؟..
هل يسأل أحدكم نفسه بعض الأسئلة قبل أن يصغي للخطب الحاقدة والمغرضة الخارجة من مغارات علي بابا وعصاباته...والتي تستخدمك كعبد وكأداة لأغراض جلها بل كلها ..تصب في مصالح ومكاسب سياسية.. لا تخدمك كفرد ولا تخدم الوطن وأمنه وأمانه ووحدته وعودته إلى طريق الصواب لا التفتيت وتقطيع الأوصال وصلات المحبة والإخاء؟! ..
ما الفرق إذن بين الإنسان والحيوان؟ أليس العقل والنطق والمحاكمة؟..حتى الحيوان لا يسقط في الحفرة مرتين...فهل يمكن لصوت الحقيقة أن يخرج من قلبك وعقلك يابن العراق...قبل أن يسيرك رجل الدين...مهما علا شأنه وانتمت جذوره للنبي أو أهله ...لعيسى أو أمه؟!.....
أقول هذا وأنا أعلم سلفا..أن غيري قال من قبل الكثير في هذا الشأن، وأن صرخاتنا في وادي الصمت ووادي الموت...ويكفي أن يصدر بوق صدري أو قاعدي...لتخرج خلفه الجموع زرافاتا وحجيجا وتقذف بأنفسها إلى أتون الموت..وبغيرها..إلى هاوية الجحيم....فهل سنجد بعض العقلاء من أهل مدينة السلام ؟ يمدون اليد المثقفة الواعية...لتغسل أدران الحقد ...ولتعقم الأرواح من فيروسات الكراهية..وتحرر العقول من الانصياع كما الأنعام.؟ ..هل يقف المثقف والسياسي العلماني معاً...من أجل عراق ملون...يعود لإشراقته وأضوائه
ويغسل دجلة والفرات أورام السرطان المذهبي إلى غير عودة؟
ترجمة وتعليق فلورنس غزلان ــ باريس
فلورنس غزلان
fozmon@yahoo.fr