مَبدأ المساءَلةِ (مَفهومه وعناصره ومستلزماته) ..
راتب ابو زيد
09-05-2018 05:36 PM
إن فلسفةَ العقابِ والثوابِ قائمة مِنذُ خَلْقِ الإنسان، وهيَ من العقائد الثابتة في الدنيا والإيمان بالآخرة، وقد وردت في الشرائعِ الدينية، ومرتبطة أيضاً بمسألةِ الخيرِ والشر، واختيار الإنسان لأيهما بإرادته، فقال تعالى في كتابه الكريم (إنّا هديناهُ النجدين إما شاكراَ وإما كفورا)، كما وردت في القرآنِ قصة عصيان إبليس لأمرِ ربه بالسجود لآدم، وقصة مخالفة آدم وحواء لأمرِ الله عز وجل بعدم الاقتراب من الشجرة، ثم بعد ذلك كان العقاب بإخراجهم من الجنة والهبوط إلى الأرض ...
كان هناك طلب من اللهِ عزَ وجل، ثم كانت هناك إرادة واختيار تمثّل في فعلٍ بمخالفة الأوامر وبالامتناع عن تطبيقِها ثم كان العقاب، هذا هو الأساس لعمليةِ المساءلة، تتمثلُ بوجه عام في أركانٍ ثلاثة، فلابد أن يكونَ هناك منهج وقواعد واضحة (أوامر أو تعليمات أو قوانين أو انظمة أو اتفاقيات .. الخ) ، ويسمى اليوم بالركنِ القانوني، ثم بعد ذلك يكون الفعل أو الامتناع وهو مايُسمى بالركنِ المادي، وأخيرا الركن المعنوي المتمثل بعنصري العلمُ والإرادة ..
وأياً كانت التشريعات في أي دولةٍ فإنها في تركيبتِها وتكوينِها لنظامِ المساءلة لا تختلفُ عن هذهِ البُنية، وإن كانت القواعد العامة أو نوع العقابِ ومقداره يختلف من مجتمعٍ إلى آخر ، وقد ارتبطت بهذا التكوين لنظام المساءلة العديد من المفاهيم التي اعتبرت قواعد عامة ثابتة مستقرة، كمبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) ، و(الأصل في الاشياء الإباحة)، و(مساواة العقوبة بمقدارِ الذنب أو الخطأ) ، وظهرَ علمُ الجريمةِ وعلمُ العقابِ ، وتَعَددت المدارس الفقهية في هذا المجال ..
ومِنَ المشكلاتِ التي يُعاني مِنها المجتمعُ، تعَدد جوانب الحياةِ المختلفة وتنوعها وارتباطاتها، فوجِدت الحاجةُ إلى وضعِ قواعد لكلِ مسألة من مسائلِ الحياةِ المتعددة وإعلام أفراد المجتمعِ بها، للإلتزام بهذه القواعد، وحتى لا تتم مخالفتها، وبالتالي لا يتعرضون للمساءلة وللعقوبات المقررة على مخالفة هذه القواعد ..
وقد انتهجت الدولُ المتقدمة سُبلاً عديدة لإعلامِ المواطنين بقوانينِ الدولة وقواعدها، كان من أبرزِها تعليم الطلاب في المدارسِ الأساسية، فالطالبُ يتعلم قواعدَ السير في المدرسةِ، كما يتعلم فيها قواعد السلوك العامة واحترام الحقوق والحريات والاتفاقيات، كل هذا في مرحلة التعليم الأساسي، فيتخرج الطالب وهو يعلم الجزء الأكبر من قواعد الحياة العامة، ولهذا نَجدُ المجتمع بوجه عام ملتزم بالقواعدِ والقوانين، لأنها أصبحت ضمن معايير سلوكه العام، وبالمقابل فإن بعضَ الدولِ تلجأ إلى إعلام مواطنيها أو من يقيم على أرض الدولة بوسائل يصعب الوصول إليها كالجريدة الرسمية التي أستطيع أن أجزم بأن الأغلب الأعم من تلك المجتمعات لا يعرفون ماهيَ الجريدة الرسمية ولا تصل اليهم، كما أن لغة القوانين وصياغتها يكون من الصعوبةِ على المُختصِ باللغة العربية تفسيرها وتأويلها، بل يصعب ذلك على المشتغلين بالقوانين والأنظمة، علاوة على كثرةِ القوانين والأنظمة وتعديلها المستمر، وتفسيرها من جهاتٍ مختلفة ..
ومن هنا فإن تطبيق مبدأ المساءلة في المجتمعاتِ غير المتقدمة يكون صعباً، لأن مبدأ المساءلة حتماً لا يعني العقاب، إنما هو نظام متكامل مرتبط بنظام التشريع و النظام القضائي وله أركانه .. ومن المظاهر التي نُشاهدها في المجتمعاتِ غير المتقدمة حالات العنف عند تطبيق القانون، وذلك بسببِ الرفض الداخلي للعقاب وعدم الإقتناع به، وهو سببٌ يمكن تبريره بالتنشئةِ الخاطئة، وبأساليبِ فهم القواعد والعلم بها، فهذهِ القواعد غريبة عنه، لم يكن يفهمها بالشكل الصحيح أو يعلم بها، ولم يتربى على احترامها في مراحلِ حياته الأولى ..
إن تطبيق مبدأ المساءلة، وإن كان من مستلزماتِ الحياة العامة، والمبادئ التي نادت بها الأمم المتحدة ولا تزال، يبدأ أولاً بإيجاد تشريعات واضحة، وبلغةٍ سهلة بسيطة وإعلام المخاطبين بها بوسائل ممكنة، والتأكد من وصولها إليهم وفهمها، وهي المهمة الأساسية للدولة، حتى لو تطلبَ ذلك إلى تخصيصِ محاضراتٍ في جميعِ مراحل الدراسة، أو عَقد الندوات في المراكزِ الأجتماعية ، أو استخدام وسائل التواصل الإجتماعي ، فالجهلُ والأمية في المجتمعِ لا يقاس على الكتابةِ والقراءة فقط ، إنما المعرفة الكاملة بالقواعدِ التي تَحكمُ المجتمع ، وتعاملاتهم وسلوكهم، وبيان حقوقهم وواجباتهم، وبالمقابل وعلى نحوٍ متكامل، يجب أن يكون هذا العلم والفهم لهذه القواعد من قبل موظفي الدولة أيضاً، الذين أوكل لهم تطبيقها، فهمٌ موحد للقواعدِ لا اختلاف فيهِ، بتفسيرٍ أو تاويلٍ ، وليسَ فيهِ مدعاة لنقاشٍ أو جدال ..