قراءة في الاوراق النقاشية الملكية (2)
المحامي الدكتور محمد عبدالله الظاهر
09-05-2018 11:21 AM
بعد أن تطرقت الاوراق النقاشية الخمس الاولى، للعديد من الافكار والرؤى حول مسار عملية الاصلاح السياسي، سواء تطوير الممارسات الضرورية للديمقراطية والادوار المأمولة من كل طرف في العملية السياسية، بهدف الوصول الى المستوى المنشود من المشاركة الديمقراطية، جاءت الورقة النقاشية السادسة، لتحدد الاساس الحقيقي الذي تبنى عليه الديمقراطيات والاقتصادات المزدهرة، والمجتمعات المنتجة، والذي يعد الضامن للحقوق الفردية والعامة، والكفيل بتوفير الاطار الفاعل للادارة العامة، والباني لمجتمع آمن وعادل، وهو سيادة القانون.
والحقيقة أنه علاوة على ما تضمنته الورقة النقاشية السادسة من أسس ومفاهيم عميقة وجوهرية في مجال الحديث عن مبدأ سيادة القانون، تضمنت في العديد من جوانبها وقفة مع الذات وتقييم حقيقي وموضوعي لواقع المستوى الادائي للجهاز الاداري الذي يعد وبحق المسؤول الاول عن تطبيق وانفاذ سيادة القانون بمساواة وعدالة ونزاهة، فضلا عما تناولته من تركيز على مسؤولية المواطن ووجوب تحمله لمسؤولياته في ممارسة وترسيخ سيادة القانون في حياته اليومية والخروج من الاطار النظري في هذا المجال الى التطبيق الفعلي على ارض الواقع، كما تضمنت دعوة صريحة لكافة مؤسسات الدولة للعمل وبشكل دوري على مراجعة وتقييم عمليات الادارة وتظافر الجهود لتطويرها والارتقاء فيها وارساء مبدأ سيادة القانون للوصول الى أعلى المستويات التي يتطلع اليها جلالة الملك.
لا شك أن سيادة القانون يعد من المبادئ التي عملت الدول المتحضرة على تبنيه وجعله أساسا لبناء النظام الحضاري والديمقراطي ودولة المؤسسات، ويقصد به خضوع المواطنين والدولة بكافة سلطاتها ومؤسساتها وإداراتها وموظفيها للقانون المطبق، دون أن يكون هناك امتياز لأي أحد أو استثناء من تطبيق حكم القانون عليه بسبب المنصب أو الدين أو الثروة أوغير ذلك، ويسميه البعض "سيادة حكم القانون" كمرادف لمبدأ المشروعية، غير أنه ومن متابعة شروح الفقهاء حول مبدأ المشروعية نجد أنهم ركزوا على تطبيقه بصدد مراقبة تصرفات الإدارة والسلطة التنفيذية وأجهزة الدولة كافة وجعلها تخضع لأحكام القانون، في حين أن مبدأ "سيادة حكم القانون" يتطرق إلى حقوق الأفراد والمواطنين أيضا، سواء تجاه بعضهم البعض، أو في مواجهة الدولة وأجهزتها، ولذلك هناك من يرى أن مفهوم سيادة حكم القانون أوسع وأشمل وأدق في التعبير من المفهوم المشروعي، حيث يعد الضمان الحيوي والأساسي لحقوق الأفراد وحرياتهم، ولا يكفي النص في الدساتير والتشريعات على هذا المبدأ ، إذ يتعين أن تتحقق سيادة القانون واقعا وفعلا، باعتبار إن سيادة القانون ليست ضمانا مطلوبا لحرية الفرد فحسب ، لكنها الأساس الوحيد لمشروعية السلطة في الوقت ذاته.
وعلى ذلك فإنه يقصد بمبدأ سيادة القانون احترام القواعد القانونية من كافة سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، واحترام الأفراد التي تتكون منهم الدولة سواء كانوا حكاما أو محكومين، لقواعد عامة موضوعة مسبقا، واحترام القانون هنا يأتي بمعناه الواسع ليعني كل قاعدة قانونية وفقا لتدرجها في النظام القانوني للدولة، فيشمل بذلك الدستور والقانون الذي يصدر عن السلطة التشريعية والانظمة والتعليمات والقرارات التي تصدر عن السلطة التنفيذية، وتفعيلا لمبدأ سيادة القانون تأتي أغلب الدساتير لتحتم على من يتقلد السلطات العامة أن يحترم القانون بهذا المعنى الواسع، غير أن احترام الدستور والقوانين ليس مقصورا على هؤلاء من أصحاب المناصب بل هو واجب على كل مواطن.
إن الديمقراطية وإن كانت تتطلب تمتع الأفراد بجميع الحقوق والحريات سواء كانت مدنية أو سياسية أو اقتصادية إلا أن هذا التمتع يجب لا يقتصر فقط على ضمان حق الأفراد في المشاركة في الحكم وصولا الى سيادة الاغلبية، بل يجب أن تكون السيادة لحكم القانون، وبالتالي يمكن القول بأن الديمقراطية ليست فقط سيادة الأغلبية بل هي سيادة القانون الذي يتضمن الحقوق والحريات العامة، وتبعا لذلك يعتبر مبدأ سيادة القانون من أسس قيام النظام الديمقراطي السليم، وأن احترامه بشكل فعلي يؤدي إلى قيام دولة القانون، الذي ينتج عنه بالضرورة تحقيق مبدأ المساواة أمام القانون، حيث يعتبر الجميع متساوين بصرف النظر عن الصفة أو الوظيفة أو الوضع الاجتماعي أو الديانة أو غير ذلك.
وتتعدد طرق تفعيل مبدأ سيادة القانون، فهذا المبدأ كغيره يبقى عديم الفائدة إذا لم توجد وسائل تكفل تحقيقه، وعادة ما تكون هذه الوسيلة عن طريق رقابة السلطة القضائية، بوصفها سلطة محايدة لم تشترك في وضع التشريعات، كون سن القوانين عمل مشترك بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فالتشريعية قد تقترح وتناقش وتقر مشروع القانون، والتنفيذية قد تقترح وتصدق وتصدر القانون، أو تبادر الى وضع الانظمة أو التعليمات أو القرارات، لذا كان من المنطق أن تسند الرقابة إلى السلطة القضائية دون غيرها، وانطلاقا من ذلك، فقد أشاد جلالة الملك بالسمعة الطيبة والكفاءة العالية والمكانة الرفيعة للجهاز القضائي، كما أشار جلالته من خلال ورقته النقاشية السادسة الى بعض المواطن التي تشكل تحديات تؤثر على أداء هذا الجهاز وحقوق المواطن او المستثمر، والتي منها الوقت الطويل الذي تستغرقه الاجراءات القضائية ونقص الكادر الوظيفي، ونقص في الخبرات النوعية الخاصة ببعض القضايا، ولهذا جاءت التوجيهات الملكية بتشكيل اللجنة الملكية لتطوير القضاء وتعزيز سيادة القانون، التي كلفها وضع استراتيجية شاملة لتطويره وتعزيز امكانياته لمعالجة التحديات ومواصلة عملية التحديث والتطوير والارتقاء بأداء السلطة القضائية، بما في ذلك توفير الامكانيات المناسبة للقضاة ورفع قدراتهم وتطوير معايير الجدارة والكفاءة وتحسين اوضاعهم وتدريبهم، وتوفير بيئة مؤسسية عصرية للجهاز القضائي واجهزته المساندة، وتطوير وتفعيل وتمكين أجهزة الرقابة والتفتيش القضائي، اضافة الى تحديث الاجراءات والتشريعات للارتقاء بعملية التقاضي وانفاذ الاحكام.
وفي ذات السياق، وفي مجال الحديث عن الادارة الحكومية، فإنه وبالرغم من أن الرقابة اللاحقة التي تمارسها السلطة القضائية تعد أساسا لتعزيز سيادة القانون، الا أن ذلك لا يجب ان يفهم منه تغييب دور السلطة التنفيذية أو الانتقاص من أهميته في هذا المجال، حيث أشار جلالة الملك من خلال ورقتة النقاشية السادسة الى ضرورة تطوير الادارة الحكومية بشكل مستمر وجعلها تخضع للمراجعة والتقييم الدائمين، بحيث يتعين تحديد مواطن الخلل والقصور والاعتراف بها للعمل على معالجتها، وتفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة كمبدأ أساسي في عمل وأداء مؤسساتنا بجميع طبقاتها ومراحلها، وفي ذلك نقول أن اصلاح وتطويرالادارة الحكومية هو الاستجابة الطبيعية للسير في نهج الديمقراطية وتعزيز سيادة القانون الذي يعد الاساس الحقيقي لتحقيق عملية التحول الديمقراطي، لهذا بات موضوع تطوير وإصلاح الإدارة الحكومية، مسألة ملحّة وضرورية وليس خيارا، مما يستوجب بالتالي العمل ضمن خطة إستراتيجية للتحديث والاصلاح بما يسهم في النهوض السياسي والاجتماعي والإقتصادي، وذلك بهدف تحديد أبرز المشاكل والمعوقات التي تعترض عمل الإدارة العامة ومعالجتها، وصولا الى تحقيق التنمية والتطوير وجعلها إدارة حديثة وعصرية قادرة على وضع سياسات وتوجهات الحكومة موضع التطبيق بكفاءة وفعالية، وتقديم أفضل الخدمات للمواطنين بعدالة، وإقامة علاقة شراكة حقيقية مع المواطن مبناها الشفافية والمساءلة في ظل سيادة القانون والتقيد بمبادئ الحكم الصالح.
إن تحقيق التطوير والاصلاح المنشود في الادارة الحكومية يتطلب التزامها بمبدأ سيادة القانون كعنصر رئيس في الحفاظ على أسس المجتمع وشرعية الدولة، فاحترام الإطار القانوني والتقيد بشرعيته، مع ما يتضمن ذلك من احترام لمبادئ الإستقامة والثقة والموضوعية ومساواة الجميع أمام القانون، وفي ذات السياق فإن المساءلة والمحاسبة، في هذا الإطار، ترتّب مسؤولية قانونية على أي جهاز إداري عن أعماله تجاه الغير، بحيث تشمل مساءلة كبار القياديين والموظفين، مقابل ما يناط بهم من صلاحيات، ولهذا فإن المساءلة تعد أساسا في الحفاظ على حسن سير الإدارة وفعاليتها، وفي سبيل ذلك فإن آليات المساءلة الفاعلة تتطلب تحديداً دقيقاً للمسؤوليات والصلاحيات بشكل واضح ومفهوم لدى كل الموظفين والوحدات التنفيذية، بحيث تكون تصرفاتهم في خدمة المصلحة العامة وفقاً للأهداف المرسومة، كما أن مصداقية القطاع العام يجب أن تتأكد استناداً إلى تقارير تقييم الأداء وتوثيقها من قبل هيئات وأجهزة مستقلة.
وأخيرا فإن دعم وتطوير المجتمع المدني وتوفير خيارات متعددة له، تفسح أمام المواطنين والمؤسسات المدنية فرصة للمشاركة في تشكيل ضمانات أساسية تساهم في دعم شرعية الإدارة العامة، ولهذا كان على الادارة ان تتجاوب مع احتياجات المواطن و الإنتقال من نظام بيروقراطي إلى نظام منفتح.