إن المتتبع لردود أفعال المواطنين اللبنانيين عبر مختلف وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعية عقب اعلان نتائج الانتخابات النيابية، قد يدرك أن المسألة اللبنانية في جوهرها هي مسألة شذوذ فكري منتشر في الأوساط اللبنانية المختلفة.
وحين يعلم المطلع أن المستقلين المنضويين تحت لواء لائحة "كلنا وطني" قد فازوا بمقعد واحد فقط وذلك عن دائرة بيروت الأولى، وأن هؤلاء المستقلين كانوا قد استقلوا بفكرهم عن التبعية الطائفية و/أو المذهبية بينما ذهب معظم اللبنانيين الى صناديق الاقتراع منقادين لا شعوريا تحت تأثير تبعيتهم الطائفية و/أو المذهبية؛ فإنه قد يصل إلى قناعة راسخة بأن المسالة اللبنانية هي في مضمونها مسالة شذوذ فكري.
فاللبناني الذي لا يقبل أن يكون رئيس لبنان غير ماروني لأن والديه عمداه في كنيسة مارونية، واللبناني الذي لا يقبل أن يكون رئيس الحكومة اللبنانية غير سني لأنه رأى في طفولته والديه لا يصليان إلا وهما مكتوفا الأيدي، واللبناني الذي لا يوافق أن يكون رئيس مجلس النواب غير شيعي لأنه لاحظ أن والديه لا يشاهدان الأخبار إلا عبر قناة المنار مثلا لا حصرا، واللبناني الذي يأمل أن تكون الغالبية للدروز في مجلس إحدى البلديات اللبنانية لأنه سمع والديه يرفضان مرارا وتكرارا فكرة تزويج شقيقته لغير الدروز؛ مثل هؤلاء كلهم مسئولون عما قد يجري قريبا من زهق للروح العربية اللبنانية!
ومثل هؤلاء هم شاذون فكريا!
لذلك، فإن الدعوة للحوار قبل أوان الدمار يفترض أن توجه للمواطنين اللبنانيين الذين ليس لديهم أدنى رغبة في الحديث مع ممن يختلفون عنهم في الدين أو الطائفة او المذهب، وليس للمسئولين اللبنانيين الذين يدور بينهم سجال سياسي أجوف كل وفق أجندته الخارجية!
والنداء للجلوس حول طاولة مستديرة قبل أن تدور رحى حرب مظنون بها في الغالب، يفترض أن يرسل إلى المواطنين اللبنانيين الذين ليس لديهم أدنى استعداد لممارسة التعددية مع ممن يختلفون عنهم في الاتجاهات السياسية أو الانتماءات الحزبية، وليس للمسئولين اللبنانيين الذين يدور بينهم حديث مبتذل حول عنوان النزاع الحالي فيما إذا كان مذهبيا ام سياسيا، بدلا من أن يوقفوا هذا النزاع أيا كان عنوانه والذي قد لا يتسبب إلا في إراقة دماء عربية لبنانية عاجلا أم آجلا!
ونشر ثقافة الوصل يجب أن يتم بين المواطنين اللبنانيين الذين ليس لديهم أدنى قبول لتعلم ألفباء الموضوعية، وليس للمسئولين اللبنانيين الذين يدور بينهم جدل بيزنطي كل وفق حساباته الخارجية حول الجهة السياسية التي تملك الحقيقة المطلقة والصواب الدائم!
لربما يكون التواطؤ السري والتصادم العلني بين إيران والعدو الصهيوني من جهة، والتصادم بيانا وخفاء بين إيران والسعودية من جهة أخرى، هم المحرك الرئيسي للأحداث المؤسفة التي قد تجري عاجلا أم آجلا في لبنان، لكن الشذوذ الفكري الذي ينتشر في مختلف شرائح المجتمع اللبناني هو الوقود الذي يتم تزويده لذاك المحرك!