ما الذي فقدناه في مشاعرنا وشوارعنا؟. أتحدى اليوم، إن بقي هناك من يهرع لنقل مصاب بحادث سير في سيارته الخاصة. العشرات من الناس يترجلون من سياراتهم للوقوف على سخونة الحادث وغباره وركامه، مسببين مغصاً معوياً في الطريق، دون أن يقترب أحد من مصاب يتفقده، أو يسعفه، أو يخفف عنه.
قبل سنوات كنتَ تجد كثيراً ممن يسارعون لتقديم يد العون، ويفتحون أبواب سيارتهم لنقل المصاب، وكأنه فرد من أفراد عائلتهم. لكننا تغيرنا اليوم وتبدلنا، وصارت المهمة الحيوية التي نتقنها ونستمريها، هي الشروع بشرع هواتفا النقالة، والبحث عن أكثر الزوايا ملاءمة للتصوير، أو البث المباشر.
عندما كنا صغاراً كانت نخوتنا كبيرة. وكنا نقف سداً منيعاً نحجز بين المتشاجرين. الذين ربما كنا نثيرهم ونحفزهم للدخول في هذا العراك، ولكن عند (الحزّ واللز) ووقوع المشاجرة، لم يكن أمامنا إلا أن نستميت لمنعهم عن بعضهم البعض، رغم أنه من المعروف إجرائياً، أن الضربة الجزيلة لا تستقر إلا في (عنقور) الحجّاز.
قد نجد بعض التبرير لمسألة الإحجام عن نقل مصابي الحوادث المرورية؛ ليس لأن الناقل سيدخل في سين وجيم ووجع رأس. بل قد نجد مبرراً لهذا، أن النقل غير الصحيح قد يزيد في كثير من الأحيان حالة المصاب سوءا، ولهذا ننتظر مجيء سيارة الدفاع المدني.
لكن، كيف لنا أن نجد مبرراً إنسانيا أو أخلاقياً أو مجتمعياً؟ لمن يرى عصبة من الرجال ينهالون بوحشية على رجل مطروح أرضا؟. كيف سنجد مبررا لهذا الجمهور العريض من المشاهدين. كم يؤلمني أن شوارعنا باتت تفتقد لريح النخوة وهبة الغوث، وصرنا نستمري المكوث على مدارج الفرجة، دون أن تتحرك فينا ذرة نزق، تجعلنا نهب للمساعدة أو الحماية.
أكاد أجزم لو أن جمهور المشاهدين والمراقبين الصامتين في معركة مجمع جبر حاولوا فقط أن يحجزوا بعض الركلات، أو يصدوا من الضربات، أن يحجزوا فقط، كي لا نقول أن ينتصروا، ويدافعوا عن المضروب. لو أن هذا حدث؛ لساد فينا شعور طيب، يجعلنا نبتسم رغم الألم ونقول: ما زال فينا نفحة خير.
لن أن خوض في حيثيات وملابسات ونتائج تلك الواقعة الموجعة. ولكن سيوجعنا أكثر أن نصل إلى هذا الشعور السلبي اللامبالي، إنه مؤلم أكثر من كل الركلات، وكل الهراوات التي رقصت فينا.
ربما لهذا السبب لا غيره، بتنا نسمع عن خصومة بسيطة بين أصدقاء تطول لسنوات؛ لأن أحداً لم يعد يسعى لتسوية هذا الخلاف وعقد الصلح بينهم. لا أعلم من أين جاءتنا بهذه السادية (التلذذ بأوجاع الآخرين). دون أن ندرك أننا بهذا، لا نعذب شخصا واحد، بل وطنا بكل ثناياه وخلاياه.
الدستور