أفضل أن يأكلني سمك البحر على أن يأكلني دود الأرض ..
د. ربا زيدان
19-04-2009 03:57 AM
" أفضل أن يأكلني سمك البحر على أن يأكلني دود الأرض"....ما الذي يمكن أن يجعل فتىً عشرينيا تلوح الشمس في أفقه لأن يصل إلى هذه الدرجة من اليأس والإحباط. .ماالذي يمكن أن يدفعه والآلاف غيره لترك بلدانهم وعائلاتهم خلفهم لينطلقوا في رحلة محفوفة بالمخاطر ومليئة بالعقبات ليصلوا إلى برّ آخر، يعتقدونه أكثر أمنا ويضمن لهم مستوى أفضل من الحياة.
عبارة مؤلمة كهذه لابد صدرت عن شخص فقد كل رغبة في الاستمرار وحاول جهده ليؤمن لنفسه وعائلته ظروفا معيشية أفضل، ظروفا أكثر إنسانية وأقل امتهانا. ماالذي يدفع الكثيرين إلى مغادرة أوطانهم بطرق غير شرعية ضاربين عرض الحائط بجميع الاتفاقيات الدولية التي تمنع مثل هذه الهجرة وتعاقب مرتكبيها بشدة . لابد أن هذا الفتى أدرك أن بقائه في مدينته –أياَ كانت- لن يؤمن له حياة هانئة بل سيقضي تدريجيا على فرص التطور والتقدم التي يسعى إليها جميع من هم في عمره. إن هذه العبارة والتي وردت على لسان أحد المهاجرين الجزائريين غير الشرعيين تكشف عمق الاغتراب الداخلي الذي يعيشه أبناء بعض دولنا العربية والتي تتسم بالعديد من العوامل الطاردة وتختفي فيها أ, تكاد سمات الجذب والنجاح التي قد تغري الشباب للبقاء واستثمار خبراتهم ومؤهلاتهم في مؤسساتها المحلية.
ورغم أن من أهم أسباب هذه الهجرة الشرعية هو العامل الاقتصادي متمثلا في ازدياد نسبة التضخم في تلك البلدان وانخفاض المستوى المعيشي ، إلا أن أسبابا أخرى تتعلق بحجم الحريات العامة وحرية التعبير عن الرأي والمشاركة في صنع القرار والظلم الاجتماعي المتمثل في تركز الثروة لدى فئة محدودة دون يرها ، يجعل من أحلام الشباب البسيطة كإيجاد عمل مناسب أو تكوين أسرة من أصعب المستحيلات.
ووفق إحصائيات الجامعة العربية فقد بلغ عدد المهاجرين من العرب حاليا 12% من مجموع السكان. ومازالت أعداد المهاجرين في اطراد ، رغم أن مدخول دولة مثل الجزائر من البترول والغاز وحدها تراوحت ما بين 18-31 بليون في الفترة مابين 2004-2007 في مؤشر واضح إلى الهوة بين الدخل القومي وانعكاساتها على مستوى المعيشة لدى المواطنين. فكيف يتسنى لنا أن نلوم شبابنا ممن يفكرون في الانتقال إلى "نعيم" دول لأخرى محتمل هروبا من جحيم فعلي يمتص أيامهم.ووفقا لتقرير الأمم المتحدة الأخير نجد أن أكثر من 67 ألف شخص عبروا المتوسط بهدف طلب اللجوء في أوروبا في العام 2008 سعيا منهم الى حياة أكثر رخاء في البلدان المستقبلة والتي وضعت نصب أعينها جهودا تنموية تفتقر إليها العديد من البلدان العربية الطاردة. فنسب البطالة وحدها لا ين\مكن تجاهلها. ففي المغرب على سبيل المثال وصلت النسبة في العام 2005 إلى 21% وفي تونس15% كما كانت في الجزائر 23.7% للعام ذاته.
ولكن المؤلم في الأمر –على الأقل من وجهة نظري الخاصة، أن المهاجرين إلى أوروبا وغيرها من دول "النعيم" كما يراها البعض، يواجهون تحديات اكبر من توقعاتهم ويفاجئون في الكثير من الأحيان برفض المجتمع الثاني تقبلهم ومحاولة إقصائهم وتهميشهم وحصرهم في أعمال بدائية قد لا تتناسب في الكثير من الأحيان ومؤهلاتهم العلمية. فالسواد الأعظم من المهاجرين غير الشرعيين يعملون في قطاعات المعادن والفلاحة وبأجور متواضعة قد لا تسمح لهم باستقدام عائلاتهم وهم يتقبلون مثل هذه المهام خوفا من الفشل والإحراج أن قرروا العودة إلى أوطانهم يجرّون أذيال الخيبة، في مجتمع يربط الهجرة إلى الخارج بعائدات مالية أفضل وأسلوب حياة أكثر بذخا. كما أن ازدياد أعداد المهاجرين يؤدي بالتدريج إلى حدوث الكثير من التغيرات الاجتماعية ، كازدياد نسب الزواج المختلط وما ينتج عنه من صراعات ثقافية وحضارية ، غالبا ما يدفع الأبناء ثمنها في دول مازالت تنظر إلى المهاجرين إليها بفوقية واستعلاء. ورغم أ، الكثيرين يدركون أم مثل هذه الدول المستقبلة بحاجة ماسة إلى الأيدي العاملة الرخيصة إلا أنها لم ما برحت تستقطب بذكاء العقول والكفاءات مقدمة لأصحابها امتيازات مادية ومعنوية لم يلقوها في أوطانهم، رغم استعداد البعض للبقاء بوجود بعض الحوافز وشئ من التقدير.
إن العبارة التي أطلقها هذا الشاب الجزائري تدل على إدراكه خطورة الإقدام على خطوة كهذه ومعرفته بالعواقب المحتملة والتي قد تنتهي بموته. لكنه والآلاف غيره نساء ورجالا وأطفالا وشيوخ يجدون أنفسهم مضطرين لملاحقة حلم بحياة أكثر كرامة ورغبة في الاندماج بمجتمع أكثر رخاء ، لكن بعضهم يصطدم بواقع مؤلم لم يخطر بباله حين يكتشف أنه ورغم جميع محاولاته اليائسة للانخراط في وسطه الجديد يظل منبوذا ومهمشا إما لتوجهاته الدينية أو اختلاف عرقه أو أي من أشكال التمييز العنصري الذي لم يألفه بين أهله وناسه. وهو في هذه الحال أمام واقعين، أحلاهما مر، إما أن يقبض على الجمر محاولا مرارا وتكرارا الاندماج في مجتمعه يختلف كليا عن المكان الذي قدم منه ، متخليا في الكثير من الأحيان عن جزء من منظومة قيمه المزروعة في صدره ، وإما أن يتقوقع وغيره من المهاجرين في أحياء عربية خالصة ، حارما نفسه من الاحتكاك بثقافات وحضارات أخرى قد تصقل شخصيته وتثري خبراته ، راضيا بمثل هذه الحل الوسط والذي يراه الكثيرون نوعا من العزلة داخل العزلة.
لازلت لا ألوم تلك الجباه الفتيّة التي تسعى إلى ما وراء البحر لتأمين لقمة العيش، لكنني أشفق على قلوبها من أن تنفطر، وعلى سواعدها من أن تتعب، وعلى أرواحها أن ترتطم بقاع المحيط عوضا عن التحليق في سماءات أوروبا..