رد على ردود ما سمعناه من هيكل
أ. د . ثريا ملحس
18-04-2009 04:25 PM
ترددت كثيراً في أن أعبر عن رأيي عما سمعته من الصحافي الكاتب محمد حسنين هيكل عبر التلفاز. سببه أني لست مختصة بمثل هذه الأمور، على الرغم من أنني أعرف معظمها، وربما سمعته مشافهة من أقرب الناس إلي ممن عاصر تلك الأحداث وعرفها عن قرب، كما يعرفها غيري ماضياً وحاضراً. وحين اطلعت على بعض ردود الكتاب الأردنيين، أصحاب الأعمدة وربما غيرهم، وهجومهم العاصفي الصاعق غير المبرر على الكاتب الشاهد على العصر وجدت نفسي قلقة حائرة في موقفي وفهمي لما سمعت، على عكس ما فهمه المهاجمون، وربما على عكس التيار، أو المفاهيم السائدة ! فلم أجد فيه عيباً ولا نقصاناً، إذا ما قارنته بالمفاهيم المعاصرة، وموقف الدول العظمى حتى اليوم من الدول الأخرى التي صنفتها دولاً نامية أو متخلفة أو فقيرة أو بحاجة إلى معونة لعلها تستميلها نحو سياساتها ! فما الخطأ ؟ وفي رأيي ما هو مقبول الآن بمصطلحات متطورة ملتوية... فبدلاً من أن تكون المساعدات والمعونات "رشاوى"، كما سماها بلا لف ولا دوران ولا مواربة، مؤسس الدولة العربية الأموية الأولى معاوية بن أبي سفيان ! وجعلها من أهم أركان سياسة الدولة وانتصاراتها، جنباً إلى جنب: مع الجيش. وبيت المال. والمصاهرة. أما الأخيرة فقد فقدت قيمتها وتأثيرها، وانطوت مع الزمان بفقدان أهمية قيمة المرأة وقبيلتها !
فبرزت معظم الردود شتائم، وتقزيم للكاتب ! فلولا استعمت إليه لما فهمت أسباب الهجوم والشتائم، لأنها كانت عامة بلا قواعد أو تبيان أو مسوغات ! نفياً أو بديلاً. و من شروط الحوار أو الردود، كما نص عليها أجدادنا منذ سجل التاريخ الرأي الآخر، ما زالت، قواعد ثابتة نبه إليها محاورون أحرار وهي: "عدم الغضب. عدم التعجب. عدم الشغب. قبول رأي الآخر وفهمه. تجويز ما تجوزه لنفسك من تأويل إلا جوزته للآخر. شرط أن تؤثر التصادق وتنقاد للتعارف. على أن كلاً من الطرفين أو الأطراف يبغي الحق ضالته. والرشد غايته. فهل يريد كتابنا في هذا العصر المأزوم، الذي تخلف كثيراً عن مفاهيم حضارتنا المتألقة الماضية، أن ننسى تراثنا وقد امّحى من رؤوس معظم المفكرين، وربما جهلوه لأنهم لا يعرفون ! وهم ليسوا معذورين، ظنهم أن آداب المحاورات حملتها إلينا الحضارة الأورو-أمريكية المعاصرة ! ولعل كتابنا أرادوا أن يسايروا الأوضاع الراهنة، في مناصرة حاكم ما، كونهم في مراقب الحكام ومحاسبتهم له ! وربما الحاكم العادل الذي يثق بنفسه وبشعبه ليس في حاجة إلى من يصد عنه الانتقادات سلباً أو إيجاباً. فغضب الكتاب لا يرقى أبداً ولا يمس الحاكم العادل الإنساني العارف بشؤون الناس وحاجاتهم والإسراع إلى إنقاذهم وصد عنهم نكبات الزمان. مثل هذا الحاكم لا يهاب شيئاً لأنه ينفذ مشيئة الله في خلقه، وأنه خلق جميع الناس متساويين في حقهم في حياة كريمة آمنة.
هذا كان وما زال شأن الهاشميين في كل زمان وعبر العصور، منذ مقاومة الرسول محمد بن عبد الله الظلم والاستبداد والاستكبار، والكفر بكل كائن حي وحقه، الذي وهبه له الله وميزه عن جميع الكائنات بحرية إرادته واختياره وعقله الذي يفصل ما بين الحق والباطل. وكانت ثورة الرسول على قبيلته قريش العنصرية الوثنية المستبدة المستكبرة العاتية، ذات الثراء العظيم والجاه الواسع، تعيش فساداً، وتستعبد العباد. ولكن الرسول محمد وحده انتصر ليعيد الحق ويزهق الباطل بإيمان وثبات واستمرار، حتى غيّر بمبادئه الإنسانية ودعوته العادلة بين البشر، داعياً إلى وحدانية الخالق، ووحدانية الإنسان أينما كان على هذه الأرض بمساواتهم التامة، فلا فرق بين أسود وأبيض. ولا فرق بين الأجناس ولا المذاهب والأديان. فأين نحن الآن من كل هذا ؟! فأورث الرسول الأكرم آل بيته التابعين إنسانيته. وتواضعه. ومحبته. وتسامحه. وعونه. حتى لمن أساء إليه. وحكايته معروفة مع اليهودي الذي كان يلقي الروث عليه كلما رآه ساجداً. وحينما غاب ذلك اليهودي عنه أياماً، قلق الرسول فسأل عنه، فقيل له إنه مريض قابع في بيته. وما كان من الرسول إلا أن عاده ليطمئن عليه !! مثل هذه الأخلاقية والسمو الإنساني ظل سارياً في دماء الحفداء جميعاً ولا سيما الذي قدر الله لهم الحكم، حتى أصبحت جيناً من جيناتهم ! فلماذا يغضب الكتاب مدافعين، وأولئك الكرماء لا يحتاجون إلى من يصد سوى أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم ! على أنني فهمت ما قاله الكاتب الإعلامي هيكل متراجعاً عن مفاهيم مخطئة بشروح لم يكن فيها مسوغات هذا العصر !
ولا بد لي من هذا التمهيد قبل أن أشرح ما فهمته وما أصغيت إليه باهتمام بالغ، متنبهة لما بين السطور. كنت من قبل أضيق ذرعاً بتحاليله وشططه وانتقالاته ما بين الماضي والحاضر، وتكراره حتى الضجر ! وكنت أتمنى عليه أن يختصر، فالسامع هو غير القارئ، لذلك هجرت برنامجه التلفزيوني حتى جاء حديثه عن الأردن وحكامه. وهذه المرة عاد من جديد ليصحح ما قاله بالأمس، مبرراً ما كانوا عليه، متفهماً الظروف، وواقع العصر ومفاهيمه. فوجدته معتذراً دائماً عن عدم رؤيته سابقاً بطريقة غير مباشرة، لعدم فهمه أوضاع الأردن. فالأردن لا يملك نفطاً ولا ثروة طبيعية وإنما ثروته في شبابه الناهض الذكي وفي إنسانه. وكثيراً ما كان يردد هذه المقولة الملك الحسين الذي واكب التقدم، وفتح الأبواب واسعة، وألغى الأحكام العرفية، فتنفس الشباب الأردني، وخرجوا من القماقم كتاباً ومفكرين وفنانين بمآت الآلاف، تضخهم الجامعات الكثيرة المنتشرة في كل أنحاء البلاد. فأين الخطأ إن رضي بالمنح والمساعدات والمعونات التي تقدمها الدول الكبرى من أجل إنعاش الوطن، ودفعه نحو الإزدهار والتقدم المستمر ؟! فأين الخطأ في قبول تلك المنح والمعونات كغيره، والأردن لا يملك ثروات طبيعية تكف عنه الفقر والعوز ؟ أليس الأردن مثل غيره من بلاد العالم التي صنفتها الدول الكبرى والمستكبرة الغنية المستعمرة بالدول النامية أو المتخلفة ؟! ربما لكي تستميلها كما كان يفعل معاوية بن أبي سفيان بالعشائر والقبائل ! فأين الخطأ ؟!
مع أنني كنت أتمنّى على الدول النفطية الغنية، حتى الإمتلاء والفيضان ! أن تكون بديلاً عن الدول الأورو-أمريكية الكبرى، وتفيض على الدول العربية المحتاجة بلا موارد مساعداتها المالية لتخليصها من كل التزام أجنبي ! وإنما بأسف أليم شددت دول النفط في الجزيرة العربية عزلها عن البلاد العربية الأخرى خوفاً على ثرواتها ! وحاصرت بلادها، ومنعت العربي طالب الرزق من دخولها إلا بشروط قاسية، يعرفها القاصي والداني ! ما دفعت شبابنا طالبي العمل أن يهربوا من هويتهم العربية متسترين بهويات أجنبية لتسهيل مرورهم إلى جزيرة العرب !! فهل هذا يعقل ؟! مع علمنا أن بعض دول الجزيرة توزع الفتات مما يتبقى منها، ومن حكامها !
وكان على آل سعود أن يعيدوا إلى الهاشميين أرزاق أجدادهم وأملاكهم، حقهم في أراضيهم، أراضي آبائهم وأجدادهم، ربما حصلوا على القليل منها !.. إذاً ماذا يفعل الملوك الهاشميون في الأردن، إن لم يكن هناك مساعدات أخرى ؟! فهل هذا غير مسوغ ؟! فأين الخطأ ؟! ألم توزع أموال الدول الكبرى بسخاء هذه الأيام على الدول النامية والفقيرة ؟! وهو نوع آخر من الاستعمار الخفي ! كان اعتراف هيكل بأخطاء تحليله سابقاً وتقويمه لاحقاً نوعاً من الاعتذار ! فما الخطأ ؟ وأين هو الخطأ ؟
إن التسرع يؤدي إلى عدم الرؤية. والغضب يؤدي إلى الإهانة والتجني بلا مبرر. هذا ما فهمته من تحليل هيكل على أضواء جديدة فهمتها. لماذا أعماهم الغضب والجهل فانقضّوا بلا هوادة ؟! لماذا لم أقرأ رداً متأنياً يرى بصيصاً في ضباب الشتائم حتى الاتهام بأمراض لو وجدت صحيحة لما كان المفكر الكاتب يتحدّث أمامنا وهو يفيض بالذكريات ؟! والعجب أنني فهمت قصده ما لم يفهمه أحد !!
وأنا لا أدافع عن الكاتب المعروف هيكل، وإنما أقف موقفاً محايداً وأنا متفهماً لمقالته ! مع تقديري المطلق لانفتاح الملوك الهاشميين، وتسامحهم، وتواضعهم، وحبهم للتقدم، واقبالهم على الحضارة المعاصرة وانفتاحهم على الآخرين ما يفوق حكامنا العرب !!
إستدراكاً: (1) أليس علاقات الأفراد بعضهم ببعض، كذلك الجماعات، كذلك الأمم، مصالح، إبتداء من العائلة، فالعشيرة إلى الأمم صغرى وكبرى ؟! استثني الفئة المستنيرة الحرة، التي منحها الله تعالى نور الهداية، وحرك فيها الضمير الإنساني، وهذه هي الفئة الناجية التي تعمل صالحاً لوجه الله تعالى، لا لمصلحة شخصية ! بارك الله بها وكثرها..وأنا منها بإذن الله !
(2) إن التاريخ لا يرحم أحداً عاجلاً أو آجلاً، وهو الكشاف الصادق. والمسجل الذكي الذي لا يمل ولا يتعب في البحث عن حقائق المجريات مهما طال الزمان. وهو المراقب الذي لا يهاب أحداً. ولا ينام أبداً لأنه يبحث عن الحقيقة وإن طمست لأسباب آنية أو شيّعها كذب الكبار والأقوياء والمستكبرين على الأرض. فالزلزال لهم بالمرصاد. وسينتصر دائماً الحق الذي يعلو ولا يعلى عليه !