هل فقدت السياسة الخارجية الأردنية أوراقها الإقليمية؟
د. محمد أبو رمان
17-04-2009 11:04 PM
تنتظِـر الأوساط السياسية والإعلامية في العاصمة الأردنية عمّان مخرجات زيارة الملك عبد الله الثاني الحالية إلى واشنطن، والتي تتخلَّـلها مُـقابلة الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما. ويترصّـد المحلِّـلون والمراقبون ما يصدُر من إشارات وتصريحات تمَـنح إضاءات هنا وهناك.
لا تكمُـن أهمية الزيارة، بالنسبة للسياسيين والمراقبين، في أنّ العاهل الأردني هو أول زعيم يزور البيت الأبيض ويلتقي بالرئيس أوباما، وإنْ كان في ذلك إشارة رمزِية، لكن القِـيمة الحقيقية لها أنّها ستمنح "مطبخ القرار" في عمـّان فرصة قريبة للتعرّف على توجّهات الإدارة الأميركية الجديدة تُـجاه المنطقة والتأثير فيها، بعد أن بدأ الرئيس أوباما يعيّـن فريقه المتخصِّـص بالملفّـات السياسية الخارجية ويشكِّـل رُؤيةً أكثرَ وضوحاً ودقَّـة حول المصالح الحيوية الأميركية واعتبارات الأمن القومي.
الملك عبد الله يذهب إلى واشنطن بعد أن اجتمع عدد من وزراء الخارجية العرب في عمان وحمّلوه باسم دُولهم وحكوماتهم مسؤولية مُـخاطبة الإدارة الأميركية ودفعها إلى منح الأولوية لعملية السلام العربية - الإسرائيلية، استناداً إلى ما تقدِّمه المبادرة العربية للسلام من عرضٍ تاريخي للتَّـعايش مع إسرائيل، بعد أن تمنح الفلسطينيين حقَّـهم في إقامة دولة مستقلَّـة كاملة السيادة.
تبايُـن في وجهات النظر
وراء هذه المهمّـة المُـعلنة، تختفي قضية تشكِّـل الهاجس الأكبر لدى "مطبخ القرار"، وتتمثل في استِـنطاق توجُّـه الإدارة الجديدة نحو الأردن وأدواره الإقليمية في المرحلة القادمة، وهي القضية التي تشكل مصدراً حيوياً من مصادِر قلقِ المسؤولين الأردنيين ومبعثاً لسِـجال واسِـع في الأوساط السياسية والإعلامية، يلخِّـصه تساؤل رئيسي: هل ستتراجع مساحة الدور الإقليمي الأردني مع إدارة الرئيس أوباما، ما يعني اختلالاً في توازناته الإقليمية من جهة، وأسئلة حول حجم المساعدات الخارجية المتوقّـعة والتي ترتبِـط بقوّة بمساحة هذا الدّور وطبيعته؟
ثمّـة وجهتا نظر في الإجابة على هذا التساؤل؛ الأولى، ترى أنّ هذا الدّور تراجَـع بالفعل بصورة أساسية خلال الفترة الأخيرة، وهو ما ينذر بضعف السياسة الخارجية الأردنية وانعكاسات ذلك، اقتصادياً وداخلياً وأمنياً، فيما ترى وجهة نظر أخرى أنّ استقرار الأردن وسلامة أراضيه، بل وأدواره الإقليمية، لا تزال قضايا حيوية في المصالِـح الأميركية والغربية، وتنسجم مع اعتبارات الأمن القومي الأميركي.
مَـن يروْن أنّ الدّور الأردني قد تراجَـع، يستندون إلى جُـملة من المؤشِّـرات والإشارات، في مقدِّمتها عدَم دعوة الأردن إلى قمّـة الرياض المصغّـرة، التي سبقت القمّـة العربية في الدوحة، ثم القفز عنه من قِـبل العديد من المسؤولين الغربيين الذين يزورون المنطقة، وانتقال إدارة الملفّـات الحيوية الإقليمية إلى أطراف عربية أخرى، من ضِـمنها دول الاعتدال العربي الحليفة للأردن.
تراجُـع الدّور الإقليمي يعود، وفقاً للمحللين، إلى اختلاف البيئة الدولية والإقليمية وفقدان الأردن للأوراق التي كان يمتلِـكها سابقاً.
نهاية حِـقبة "الحرب على الإرهاب"
ففي السنوات الأخيرة السابقة، وبالتّـحديد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أمسكت الحكومة الأردنية بملفات مهمّـة في المنطقة، ممّـا منحها أهمية استثنائية باعتبارها حليفاً وصديقاً للولايات المتحدة، وأدّى إلى ارتفاع نسبة المساعدات الأميركية بصورة ملحوظة، إلى أن وصَـلت إلى قرابة ست مائة وخمسين مليون دولار خلال العام الماضي، بالإضافة إلى أشكال أخرى من الدّعم، في حين حصل الأردن على منحة سعودية، غير مُـعلنة رسمياً، تصل إلى قرابة نصف مليار دولار، وِفقاً للعديد من المصادر.
الورقة الأولى التي فقدتها السياسة الأردنية هي المساهمة الأمنية الفاعلة في "الحرب على الإرهاب"، حيث لعِـبت الأجهزة الأمنية الأردنية دوراً حيوياً في المنطقة من خلال قُـدراتها المعروفة في التَـعامل مع تنظيم القاعدة، ورُبّـما ذلك ما أدّى إلى وضع الأردن ضِـمن أهداف التنظيم وعلى أجندته الإعلامية والأمنية، وتسبّـب لاحقاً بتفجيرات الفنادق في عمان عام 2005.
الرئيس أوباما دخل البيت الأبيض وهو يعلِـن بوضوح نهاية حِـقبة الحرب على الإرهاب والعودة إلى المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية، التي تقوم على التّـعامُـل مع كل منطقة باعتبارات الأمن والمصالح والتحالفات الواقعية.
بدَت الصورة واضحةً للغاية مع إعلان وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلنتون أنّ مصطلح "الحرب على الإرهاب" سيختفي من قاموس السياسة الخارجية الأميركية في الأيام القادمة، وقد توازى ذلك مع توقيع الرئيس أوباما على أوامِـره بإغلاق معتقل غواناتامو، كإعلان رمزي عن نهاية تلك الحقبة.
الملف العراقي في يَـد المالكي!
ومِـن الأوراق الرئيسية التي خسرتها السياسة الأردنية، الملف العراقي، حيث كانت الأوضاع الأمنية غير المستقِـرّة بعد الاحتلال، وارتفاع وتيرة العنف، ودور التنظيمات المقاومة، وصعود القاعدة بمثابة عوامل رئيسية أعطت الدور الأردني أهمية استثنائية لدى الإدارة الأميركية والحلفاء العرب، سواء من حيث السؤال الأمني أو الدّعم اللّـوجيستي المطلوب أو حتى باعتباره مركزاً للِـقاء السياسيين العراقيين ولجوء الاستثمارات إليه، وباعتباره بُـؤرة تجمع إقليمية رئيسية تمنح درجة أكبر من الأمن والأمان للعراقيين من مختلف التوجّـهات السياسية والاجتماعية.
أمّا اليوم، فيبدو أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يملك كثيراً من الأوراق السياسية والأمنية في الملف العراقي، ويشبِّـهه خصومه بصدّام حسين الجديد، ذي "النسخة الشيعية". وقد تراجعت أحداث العنف، وخبا نجم القاعدة مع تشكل الصحوات، فضلاً عن اندماج السُـنة في اللعبة السياسية، ما يجعل من العراق قوياً وأكثر تماسُـكاً من الصورة التي بدا عليها في السنوات الأولى بعد الاحتلال.
وإذا افترضنا أنّ أحداث العنف الأخيرة في العراق بمثابة "نكسة عابرة" في الحالة الأمنية، ولا تؤشر على خطورة الوضع بعد خروج القوات الأميركية من هناك، فإنّ أهمية الأردن للعراقيين والأميركيين والعرب ستتراجع في إدارة الملف العراقي، ما يُـفقده امتيازات عديدة.
الملف الفلسطيني واليمين الإسرائيلـي
ضربة أخرى تلقّـتها الرِّهانات السياسية الأردنية، تتمثل في نهاية حِـقبة الرئيس بوش دون حدوث تقدّم يُـذكر على مسار التسوية، وانتكاس مخرجات اجتماع أنابولس للسلام، مما قوّى من حجية معسكر الممانعة العربية ومنحه مزيداً من القوة السياسية الإقليمية، وأحرج الأردن ودول الاعتدال العربي التي تبنت مسألة تسويق مبادرة السلام العربية وعوّلت على وعود بوش بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وفي الوقت نفسه، أخذت مصر "أوراق الملف الفلسطيني" وتولّـت عقد الحوارات والنقاشات بين كل من فتح وحماس، ما أفقَـد الأردن أيضاً دوره التقليدي في هذا الملف، الذي يشتبك مع اعتبارات الأمن الوطني الأردني، خاصة في الضفة الغربية التي يمثِّـل الاستقرار السياسي فيها مصلحة أمنية أردنية بامتياز.
خيبة الأمل الأردنية اكتملت مع وصول اليمين الإسرائيلي المتطرِّف إلى الحكومة، وتراجع معسكر السلام وانحساره في سياق قراءة عامة ترى أنّ الوسط الإسرائيلي نفسه (حزب كاديما) ينحاز إلى اليمين في طروحاته السياسية.
يمتد الخطر اليميني الإسرائيلي على عملية السلام ليُـصيب جوهر الأمن الوطني الأردني، إذ أنّ عدم إقامة دولة فلسطينية يعني الضغط على الأردن للقيام بدور أمني أو سياسي في الضفة الغربية، ما يفتح الباب على سيناريو عودة ولاية الأردن على سكان الضفة الغربية، لكن مع جغرافية مقطّـعة الأوصال، ما يُـهدد المعادلة الداخلية الأردنية القائمة على توزيع حسّـاس ودقيق بين الأردنيين من أصول أردنية وفلسطينية.
ويرى فهد الخيطان، المحلل السياسي المعروف، أنّ "الأردن لم يفقد أوراقه الإقليمية، بقدر ما فقد حضوره الإقليمي"، وذلك يعود لسببين: الأول أنّ الأردن التزم في مرحلة سابقة بتبَـعيته لمِـحور الاعتدال العربي، ما جعله رهيناً بحركة هذا المِـحور وحساباته التي قد لا تتطابق دوما مع المصالح الأردنية، ثم عادت السياسة الخارجية الأردنية، في مرحلة لاحقة، تحاول الخروج من فِـعل الاستقطاب المباشر وأخذ موقف وسطي، ما جعل مواقفه ذات طابع "رمادي" تنظر له الأطراف العربية الحليفة بأنه "غير مؤثر".
مصالح ثابتة ودور متغيِّـر
يُقلل المسؤولون الأردنيون من أهمية الرأي السابق ويروْن فيه "تغليباً لطابع التشاؤُم والقلق على الاعتبارات الواقعية والموضوعية التي تحكم الحسابات الأردنية، المرتبطة بتحالفات دولية وإقليمية صلبة وقوية".
أما بخصوص تغييب الأردن عن قمة الرياض، فيبرر المسؤولون ذلك بأنّ "الأردن لم يكُـن طرفاً في الخلاف بين المصريين والسوريين".
الدكتور محمد المومني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة اليرموك، وإن كان يرى أنّ الأردن ما يزال يحافظ على أهمية الاستراتيجية لدى مراكز القرار الأميركية "لما يمتلكه من مصداقية حقيقية" ولأهميته في الاستقرار الإقليمي، إلاّ أنّه يقِـرّ بأنّ "تراجع حضور الأردن في تحديد الأطراف الرئيسية الفاعلة إقليمياً يعود، وِفقاً لدوائر القرار في واشنطن، لارتباك الرؤية الأردنية نفسها".
ويفسِّـر المومني ذلك بأنّ الأردن يعلِـن رفضه للعَـِـب أيّ دور في الضفة الغربية، في الوقت الذي ينزعج من تحجيم مهمّـته في "عملية تدريب الشرطة الفلسطينية"، كما يرِِد في تصريحات السياسيين الأميركيين.
شروط استعادة الحضور الإقليمي
ويرى المومني أنّ الخروج من معضلة الارتباك في الخيارات الاستراتيجية الأردنية والابتعاد عن المنطقة الرمادية، يتطلّـب قفزتين اثنتين مترابطتين: الأولى أن يقترح "مطبخ القرار" في عمان صيغة واقعية موضوعية تتجنّـب الهواجس الأردنية في حمل العبْء الأمني الفلسطيني، في مقابل البحث عن دور يحمي المصالح الأردنية ويوفِّـر لها مساحة واسعة، بدلاً من الاقتصار على مهمات ثانوية، وهو ما يقود إلى القفزة الثانية المطلوبة بإعداد "خيارات بديلة"، إذ يفتقد الأردن، وِفقاً لعدد من المحللين والسياسيين، "إلى خـُطة ب" في حال فشلت الرِّهانات السياسية الحالية، أو على الأقل، العمل على "تنويع سلّـة الخيارات" بدلاً من افتقاد القُـدرة على المناورة.
ويوافق فهد الخيطان على ذلك، إذ يرى أنّ الأردن بإمكانه، إذا قرّر، أن يضع مصالِـحه الإستراتيجية والحيوية أمام ناظريه، وأن يعيد تعريف دوره وهيكلته وتوسيعه، إذ يمتلك العديد من السِّمات التي أهّـلته تاريخياً لدور حيوي وفاعل رئيسي، وليس ثانوياً في المنطقة.
عن سويس انفو.