عيون المَها وعيون جاراتنا
طلعت شناعة
06-05-2018 01:06 AM
تذكرتُ «جَدّي» الشاعر العباسي عليّ بن الجَهْمْ وترحّمتُ على روحه وأنا أقف امام بيتي متأملاً حركة باصات المدارس التي تنقل الاولاد والبنات.
بينما كان أولاد يتقافزون مثل الأرانب ويطلّون من على شُرفات الفِلَل والبيوت الفخمة المجاورة لبيتي.
فالشاعر الجَهْم ، أراد يوما مديح الخليفة المأمون فلم يجد سوى قوله: «أنت كالكلب في وده لصاحبه / وكالتيس في قراع الخطوب».
فما كان من حاشية الخليفة سوى «الانقضاض» عليه للفتك به، ظناً منهم ان الشاعر «يهجو» المأمون.
لكن الأخير، وهو الخليفة المثقف، فهم المعنى وطلب منهم التريّث. وقال لهم: إن الشاعر ابن بيئته وهو يسكن في حي مُعدَمْ وفقير. واقترح عليهم منح الشاعر «بيتا» في منطقة راقية قرب «جسر الرّصافة» على نهر دجلة في بغداد.
وبعدها بأيام جاء بالشاعر وطلب منه القاء قصيدة في مدح الخليفة. فوقف علي بن الجهم وقد ظهرت عليه النّعمة وأنشد:
«عيون المها بين الرصافة والجسر / جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري».
أما أنا، وحدي أنا، فقد أخذتُ أتامل جيراني الجدد وبالطبع «جاراتي» لأن الرجال متشابهون في الوقار المُصْطَنَعْ والتجهم وافتعال الانشغال. وأنظر الى سلوكهم ربما أستفيد ولعل وعسى أُصبح مثلهم (قولوا آمين).
سيدات مثل الغزالات يخفين عيونهن الجميلة بنظارات سوداء يقفن بانتظار باص المدرسة، وأي مدرسة... من المدارس التي كلفة التعليم فيها أغلى من الجامعات.
ابتسامات وليونة في الأجساد ورشاقة في الحركة ولطف في التعامل مع الصغار. بعكس مناطق أُخرى، تكون الأم « إيدها والكفّ والشلاليت على قفا الولد»، الذي يخرج الى المدرسة رغم أنفه وعلى عينه، فتجده ينسى الحقيبة والقلم والدفاتر من كثرة ما يتعرض له من بهدلة. وترى عيونه «مورّمة» من الضرب.
هنا.. تختلف الأمور:
أصابع بالكاد تشعر بها لرقّتها، حُنوّ وحنان على الصغير ودلال ما بعده دلال. حتى سائق الباص يأتي على مهل ودون «زامور» يصحّي الحارة. يتوقف تماما وكأنه ينتظر فرحاً أو «زيادة سنوية».
يودع «عبّودة» أُمه بالاحضان وكأنه «مسافر». وترفع يدها مسافة ـ معقولة ومحسوبة ـ وتظل كذلك حتى يختفي الباص. ثم تمضي غزالة الصباح.
وفي المساء ثمة رياضة ومشي بالأحذية الخفيفة وسمّاعات أُذن متدلية مثل خيوط الليل.
لم أتحدث مع أي من الكائنات. فقط كنتُ أتأمل وأترحم على جدّي الشاعر عليّ بن الجهم: الله يرحمه ويرحمنا برحمته،،.
الدستور