ان عدم ادراك الفارق بين الرأي والحقيقة يدخلنا في معمعة الخلافات،وادراك الفارق بين الحقيقة ووجهة النظريجعلنا نكتشف من يتعمد اثارة الجدل حو ل حقائق مجردة .
ان الحقيقة امر موضوعي بطبيعته،لكن الرأي يحتمل عدة وجوه ،يمكن ان يكون احيانا غير موضوعي ويصعب التأكد منه لأن لكل شخص رأيا .
لا بأس ان يبنى الرأي على حقائق لتجعل حججنا قاطعة ،لأن بعض المتحاورين موضوعيون ،لأنهم يستندون في ارائهم الى حقائق مجردة ،فترجح كفة الآخرين .
لكن نجد قضايا فكرية في البلاد العربية حيث أصبحت تشكل عبئا ثقيلا على مراكز صنع القرارالمجتمعي .
أحد تلك الهواجس الاعتقاد بان الشعوب العربية غير قادرةعلى التعايش السلمي مع بعضها البعض ،وغير قادرة على تقبل الاختلاف مع الرأي الآخر،أو تقبل الاختلاف الموجود بين الاعراق والطوائف الموجودة في المجتمع .
على الرغم من وجود تاريخ طويل من التعايش بين تلك الطوائف سواء في مصر أو سوريا أو العراق أو حتى البلدان العربية التي لم تشهد حتى الآن صراعا بين اطياف المجتمع وطوائفه ،الا ان هذا التقبل لم يعد موجودا بل أصبح شيئا من الماضي .
هذا الكلام ليس حقيقيا على ارض الواقع أو على الاقل على مستوى التعايش بين عامة الناس .
التعايش لا يزال حقيقة قائمة بين الناس في المجتمعات العربية ،التي تشارك في الثقافة الاجتماعية نفسها،المبنية على الترابط والقيم نفسها المشتقة من الاديان السماوية والقائمة على التراحم والحب .
ففي واقع الامر لم تعرف الشعوب العربية هذه التفرقة ،ولم يمارس الناس التفرقة ضد بعضهم البعض ،الا حين ظهرت الأيديولوجيات المختلفة وتم استغلال الشعوب لضرب بعضها البعض وتسخيرها لتكون نيران حقد تلك الايديولوجيات ولتحقيق مصالحها .
لقد عاشت الطوائف والأديان والمعتقدات مع بعضها لقرون عديدة أشقاء وجيران ،وتزاوجت تلك الطوائف مع بعضها البعض دون النظر الى دين الآخر وعرقه ومستواه الاجتماعي ،واذا ظهرت تفرقة او مورس نوع من الاضطهاد ،فلم يصدر من الناس العاديين ،بل من قبل الأنظمة والمؤسسات التي لها مصالح في ظهور مثل تلك الاختلافات والنزاعات واستثمارها لأغراض سياسية وايديولوجية بحتة .
لقد ظهر الاختلاف والتطرف والعنصرية اول ما ظهرفي المجتمعات العربية التي انقلبت فيها الاحوال رأسا على عقب ،وتبدلت فيها الامور وأصبحت قيم التعايش وقودا لتلك الحرب التي أكلت الاخضر واليابس من البشر والقيم الاجتماعية ،التي عاشت عليها المجتمعات لقرون طويلة وعلى رأسها التعايش الاجتماعي .
كان أكثر مايميز المجتمعات العربية في الماضي هو العلاقات الطيبة بين البشر وخاصة القاطنين في البقعة الواحدة ،فلم يكن الدين أو المذهب أو الطائفة تفرق بينهم ،حتى عندما كانت الأنظمة الأستعمارية والفئات الحليفة معها تعمل بآلتها العسكرية على اشعال الفتنة لأشغال الناس عن الفساد الداخلي والتعنت والظلم والديكتاتورية .
لقد كانت الشعوب من الفطنة والحكمة والوطنية ،ما جعلها تتكاتف وتقف سدا منيعا ضد الظلم السياسي وضد كل تيارات الفتنة والتشتت طوال عقود كثيرة .
لكن الشعوب العربية قد بدأت تدخل في روح الخلاف مغلفا بالدين والسياسة ممولا من الخارج لتفرق بين الاخ واخيه والجار القريب والبعيدحتى تتباعد الناس عن بعضها البعض وتدب الخلافات فيما بينها .
لكن المجتمعات العربية بحاجة لصحوة فكرية ،تقلع من تربتها كل النباتات الشيطانية وتزرع بدلا منها الأصلاح والتعايش وتعود الشعوب الى تكاتفها وتلاحمها معا .
أما في الولايات المتحدة الامريكية فقد بدأت العنصرية والطائفية على اوسع نطاق ،فقد كان السود محرومين من دخول مدارس البيض .
لقد حاول اوليفر براون والد ليندا ادخالها في مدارس البيض في الخمسينات من القرن الماضي ولكنه فشل .
أخذ السود حكما من المحكمةللمساواة بين الطرفين في بدايات القرن العشرين للنهوض بالشعوب الملونة ،لكن الدستور شئ والواقع شئ آخر .
للعلم في خمسينات القرن الماضي كان يمنع كولن باول ان يدخل حمامات البيض ،على الرغم انه فيما بعد أصبح رئيسا لأركان الجيش الامريكي ووزيرا لديهم .
في عام 2014أصبح اوباما، وهو من السود ذي الاصول الافريقية،رئيسا للولايات المتحدة الامريكية كلها ،لكن الواقع يبقى مغايرا للدستور والتفرقة منتأصلة ومتجذرة،ففي عام 2016 صدر تقرير من الحكومة الفدرالية يشير الى ان الكثير من المدارس لا تزال تعاني من الفصل العنصري بحكم الواقع وليس بحكم القانون ..
بطبيعة الحال اذا لم يكن هناك مساواة بين الجميع دون تمييز أو محاباة فان الامور الاقتصادية والمالية لن تكون متجهة للاتجاه الصحيح .
لقد أجريت دراسة للسياسات المالية قبل عشر سنوات ،من قبل خبراء الاقتصاد في البنك الدولي بالتعاون مع خبراء من جامعة جورج تاون وقاموا بفحص السياسيات المالية لأكثر من 100 دولة خلال قسم كبير من عصر ما بعد الحرب ،خلصت الى ان السياسات المالية في الاقتصاديات المتقدمة كانت تميل الى الاستقلال عن دورة الاعمال (غير دورية ) أو تميل الى الاتجاه المعاكس معاكسة للتقلبات الدورية .
كانت عناصر تثبيت الاستقرار المدمجة مثل التأمين ضد البطالة جزءا من القصة .
لكن الانفاق الحكومي عمل ايضا على تسهيل الدورة الاقتصادية .
تتلخص الفائدة المترتبة على السياسات المعاكسة للتقلبات الدورية في انخفاض الدين الحكومي كحصة من الناتج المحلي الاجمالي خلال الاوقات الطيبة ،ويوفر هذا الحيز المالي الضروري عندما يتجسد الركود دون تعريض استدامة الدين في الامد البعيد للمخاطر .
في المقابل كانت السياسة المالية في اغلب اقتصاديات الاسواق الناشئة مجارية للتقلبات الدورية،حيث يزداد الانفاق الحكومي عندما يقترب الاقتصاد من التشغيل الكامل للعمالة،بمساواة ودون تمييز وهذا يجعل الدول في وضع ضعيف لا يسمح لها بضخ التحفيز عندما تكون الاوقات سيئة ،وفي واقع الامر يعمل هذا الاتجاه على تمهيد الساحة لتدابير التقشف المروعة التي تجعل الأوقات السيئة اشد سوءا ،اذا لم يتكاتف الجميع للعمل بهدف واحد
في أعقاب قبولها في منطقة اليورو أثبتت اليونان على نحو مقنع ان اي اقتصاد متقدم قد يكون مجاريا للتقلبات الدورية مثله كمثل اي اقتصاد في الاسواق الناشئة ،فخلال عشر سنوات من الازدهار مع اقتراب الناتج من كامل امكاناته اغلب الوقت ،تجاوزالانفاق الحكومي النمو وتضخم الدين الحكومي ،ولعل صناع السياسات افترضوا ان الادخار للايام العصيبة أمر غير ضروري ،اذا كانت هذه المرة مختلفة وكانت أشعة الشمس الدائمة هي المعتاد الجديد .
ففي الولايات المتحدة الامريكية عام 2018يمثل العجز الذي يبلغ تريليونات من الدولارات ،بقدر ما يستطيع أهل الاقتصاد ان يوضحوا دليلا ظاهرا على ان قوس السياسة المالية في الولايات المتحدة ينحني في الاتجاه الخطأ،اذ ان الشيخوخة السكانية تستلزم ادخال الموارد للمستقبل،وليس الانفاق الآن،وبطبيعة الحال تتمتع الديموقراطيات بتاريخ طويل من الافراط في مكافأة الناخبين الحاليين على حساب اجيال المستقبل ،لكن السخاء المالي بحجمه ونطاقه الحاليين يأتي في غير حينه في ما يتصل بكل من اتجاه الاقتصاد الامريكي ودورته الحالبة .
يعتقد اغلب المحللين ان الولايات المتحدة أصبحت عند اوتقترب من مستوى الناتج المحتمل ،والتحفيز المالي في مثل هذا الوقت يجاري الدورة الحالية بوضوح .
ترجع الدورة السابقة من التحفيز المالي الى قانون التعافي واعادة الاستثمار الامريكي لعام 2009والذي استند في الاستجابة للركود العظيم ،وامتد التحفيز الى ما بعد انقضاء الاحتياج الفوري ،وارتفع الثمن النهائي الى 840مليار دولار ،أما الفائدةالاقتصادية الصافية فانها تظل موضع جدال ،ولكن في ظل هذه العيوب تناول التشريع الدولي الملموس الذي اتسم ببطالة اقتربت من 10% وهذا ما يمكن توقعه في ظل سياسات تقديرية ،ولهذا السبب يتحرك معدل البطالة في الاتجاه المعاكس لعجز الموازنة الفيدرالية .
أما الدين العام فقد أصبح 150%من الناتج المحلي الاجمالي .
يزعم بعض المسؤوليين ان شهية المستثمرين الاجانب لديون الحكومة الامريكية – تحتفظ بقية دول العالم بما يقرب من نصف سندات الخزينة الامريكية المعلقة والتي تزيد قيمتها على 6تريليونات دولار – تعمل على عزل امريكا عن الاضرار الاقتصادية ،وقد بلغ مجموع فوائض الحساب الرأسمالي ،والتي تنعكس في الحساب الجاري نحو 3،3تريليونات دولار من عام 2010الى عام 2017،مقارنة بعجز فدرالي اجمالي مقداره 8تريليونات دولار، وستدفع الولايات المتحدة ثمن تجاوزاتها الحالية من وعد المدفوعات المستقبلية التي سيتحملها أجيال المستقبل .
فاذا ما انتبهوا وضبطوا ديونهم وعملوا على برمجتها والغائها فستكون الطامة الكبرى .
فهذه امريكا التي تحتفظ باكبر اقتصاد في العالم ،فما بالك لاقتصاديات بقية دول العالم اذا لم تنتبه لواقعها وظروفها الحالية ؟
د. المهندس سامي الرشيد
dr.sami.alrashid@gmail.com