لربما لفتت الجلسة المشتركة الأخيرة، الأنظار الى مسألة كفاءة العملية التشريعية، عبر مراحلها، من الاقتراح، والصياغة، الى الاقرار في مجلسي النواب والأعيان، مرورا بالحلقة الأهم المتمثلة باللجان المختصة في المجلسين.
ابتداء، القصة تتعلق بالصياغة الواردة الى مجلس النواب، ومن ثم بآليات النظر في مشاريع القوانين داخل المجلس، انطلاقا من عرض مشروع القانون الوارد من الحكومة على الجلسة العامة للنواب، فيما يعرف بالقراءة العامة الأولى تحت القبة، قبل تحويله الى اللجنة المختصة؛ فعلى أهمية هذه الخطوة، التي صمت النظام الداخلي لمجلس النواب عنها، نجد رئاسة مجلس النواب، ومن واقع خبرتي في المجلس السابع عشر، لا تحبذ منح النواب المساحة الكافية لقراءة القانون قراءة أولية عامة وموسعة. وعادة ما يتم اختصار هذه الخطوة الهامة، لتسارع الرئاسة الى استخلاص قرار المجلس بالتحويل الى اللجنة ذات الاختصاص،مبررة ذلك بأن من لديه رأي أو موقف أو مقترحات، عليه الذهاب الى اللجنة ليقدم ما لديه هناك. مع العلم بأن النواب قلما يذهبون الى اجتماعات اللجان، وقلما تحقق اجتماعات اللجان النصاب اللازم لانعقادها، وهذه حالة يعرفها النواب، ولا يراها عامة الشعب، في حين تظهر معضلة تحقيق النصاب بوضوح في الجلسات العامة تحت القبة، كداء مزمن يصعب علاجه! إذا يتم التفريط بفرصة القراءة الأولى مع أنها تمنح المجلس نظرة عامة للقانون ولموجباته، كما تمنح اللجنة المختصة التي سيحال لها القانون، إن لم يتم رده، وجهات نظرعامة واجمالية، تثري الحوارات داخل اللجنة، وتؤشر لها على جوانب هامة، وتضيء مفاصل جوهرية في مشروع القانون، وترسم الخطوط العامة لوجهات نظر أعضاء المجلس ومواقفهم حياله.
وبما أن اللجان هي مطبخ التشريع الحقيقي، فمن الضروري التساؤل عن آلية تشكيل اللجان، ومدى علاقة أعضاء اللجنة بمهامها واختصاصاتها، الموضحة في النظام الداخلي؟ وهل هم من أصحاب الاختصاص والخبرة؟ وهل تتوفر لديهم الجدية والرغبة في العمل داخل اللجنة؟ أم أن عضويات اللجان ورئاساتها يتم توزيعها على أساس المحاصصات بين الكتل والمجموعات المتجانسة، وللتجانس هذا معايير متنوعة يعلمها النواب، منها العلاقات الشخصية،والترضيات، والتصفيات! فكم (رسب) أو تم العمل والكولسة من أجل (ترسيب) أصحاب الكفاءة والاختصاص في انتخابات اللجان، عضوية أو رئاسة، على قاعدة استبعاد المختصين والجادين، والعمل على التخلص منهم، لأسباب تتعلق بالمناكفات الشخصية، غالبا، أو لاستبعاد النواب الأقوياء الذين يمتلكون رؤية حول عمل اللجنة، ولديهم مواقفهم المعلنة والحاسمة من التشريعات والقضايا، التي عرضت عليها سابقا، أو ستعرض مستقبلا!!
ولنا أن نتساءل،هل يتوفر المجلس على كوادر من الخبراء والمستشارين، قادرين على تزويد اللجان ورفدها بالمعلومة والرأي والمشورة؟ ومن جانبها هل تحرص اللجان على الاستماع لأصحاب العلاقة والخبرة والاختصاص؟ وهل تهتم بالتواصل مع بيوت الخبرة محليا ودوليا؟ ومع مؤسسات المجتمع المدني المعنية، عند مناقشة القوانين؟
ومن المهم الالتفات الى أن النظام الداخلي أتاح اقرار مشروع القانون والتعديلات المقترحة عليه في اللجنة بأغلبية الأعضاء الحاضرين اجتماعها، مع مراعاة أن النظام أوجب حضور الأغلبية المطلقة من أعضائها في مستهل الاجتماع، وهذا جيد، لكن النظام الداخلي أتاح استمرارية اللجنة في الانعقاد والتصويت، حتى لو فقد الاجتماع نصابه بمرور وقت الانعقاد، وعادة سرعان ما تفقد اجتماعات اللجان نصابها بسبب تسرب الأعضاء! وهنا يكتفى بأغلبية من استمروا في الحضور من أعضاء اللجنة للتصويت واقرار مواد مشروع القانون وتعديلاته!! والأدهى أن ما تقره اللجنة بهذه الآلية سينظر له تحت القبة، على أنه تجسيد لموقف اللجنة، ويمثل خلاصة مناقشاتها. وعادة ما نجد أعضاء المجلس يصوتون لصالح قرارات اللجنة، ثقة واحتراما، ودون أن يبذل بعض النواب أي جهد في قراءة القانون واستيعابه! هذا بخلاف الحال داخل مجلس الأعيان، نظرا لما يتمتع به أعضاء مجلس الأعيان في المجمل من مواضبة والتزام بحضور اجتماعات اللجان والجلسات العامة، والتعاطي بجدية مع عمل اللجان ومجمل أعمال المجلس وأنشطته، فالأعيان يفتقرون لثقافة الغياب وفقدان النصاب.
وقد يقول قائل بأن جانبا من المسؤولية يعود الى النظام الداخلي لمجلس النواب، حينما حصر النقاش تحت القبة في المقترحات الخطية المقدمة الى الرئيس حول مشروع القانون وتعديلاته قبل البدء بالتصويت، وبخلاف ذلك يمنع النائب من طلب الكلام أثناء مناقشة مشروع القانون المحال من اللجنة المختصة، مما يحرم الجلسة العامة من وجهات نظر هامة، لم يتح المجال لأصحابها تقديمها مكتوبة في الوقت المناسب، أو أنها تولدت أثناء النقاش العام. ومن جانب آخر يبدو وجود عرف يذهب الى اجهاض أي محاولات لاعادة فتح بعض المواد قبل التصويت على القانون بمجمله! مما يحرم المجلس من المعاودة، ولعله من الضروري أن يقتنع المجلس بمنهجية المعاودة وأهميتها في التشريع.
والسؤال الأهم يتعلق بالتعاون بين غرفتي مجلس الأمة، النواب والأعيان، في ظل شعور كل منهما بقوته، فالنواب يستشعرون قوتهم النابعة من مكانتهم ودورهم دستوريا، وأنهم نتاج الانتخاب المباشر من الأمة مصدر السلطات. في حين يشعر الأعيان بقوة نابعة من مكانتهم الدستورية، وطويل خبراتهم، وعميق تجاربهم، ورفيع مؤهلاتهم، ومن كونهم يمثلون مجلس الملك الخاص. وهذا يقودنا للتساؤل عن حقيقة التشاور بين اللجان المتناظرة في المجلسين؟ وهل يجري تنظيم لقاءات مشتركة للتشاور والتنسيق وتبادل الآراء والتعرف على المواقف؟ أو هل يتم تنظيم لقاءات تعارف على الأقل بين اللجان المتناظرة في المجلسين، أو بين عموم أعضاء المجلسين؟ أم أنه يجري العمل وفقا لنظرية الجزر المعزولة، بالرغم من التلاصق الفيزيائي والمكاني بين المجلسين؟ لنكتشف في نهاية المطاف أن الفجوة واسعة بين تصورات النواب وتصورات الأعيان، حول روح القانون وغاياته وأهدافه، ونطاق تأثيرة، والنتائج المتوقعة من تطبيقة، فنذهب مضطرين الى الجلسات المشتركة. مع الاقرار بأن الجلسات المشتركة وهي تشكل ظاهرة صحية، توحي بتعددية المواقف والآراء بين المجلسين، لكنها توحي بضعف التنسيق بين الطرفين.
أعتقد أن روحية الدستور تقوم على تكاملية الأدوار بين غرفتي مجلس الأمة؛ فمجلس الأعيان يشكل بيت خبرة هام، ويتألف من رجال وسيدات دولة، يمتلكون اطلاعا واسعا على التشريع وتطبيقاته، ولديهم تاريخ ممتد في العمل العام وممارسة الحكم و الادارة، و يحوزون خبرات ثرية على اتساع آفاق الحياة العامة، وامتداداتها وتنوعها، تثري عملية التشريع. في حين يمتلك أعضاء مجلس النواب تواصلا حيا مفتوحا ودائما، مع وقائع الحياة ومتطلباتها، ومع نبض الشعب ومطالبه واحتياجاته، ويلتصقون بهموم الشعب ورغباته، ويدركون ما يواجه المواطن من مشكلات وتحديات، ينبغي مراعاتها عند النظر في التشريعات، كما في السياسات والقرارات. ومن هنا تتكامل الأدوار بين المجلسين، وتتحقق مرامي الدستور وغاياته من خلق غرفتي النواب والأعيان داخل مجلس الأمة.