"متل ما بدك يا أم الأنيس"!
لارا مصطفى صالح
03-05-2018 12:21 AM
في إحدى الليالي التي سبقت يوم سفري، خلد أهل البيت إلى النوم باستثناء ستي -لروحها السلام وعليها السلام- قضينا ما تبقى من الليل نشاهد إعادة لمباراة للميرينغي، بينما كانت هي تُمارس هوايتها الأثيرة في سرد الحكايات علي، الحكاية تلو الاخرى. بدأت من أيام البلاد وانتهت بملعب سانتياغو برنابيو والذي أصرت وبشدة أنه هو نفسه ملعب "الشيخ جراح"!
- يا ستي هذا الملعب في إسبانيا!
- لا، بكلك الشيخ جراح!
- طيب متل ما بدك يا أم الأنيس!
وأن أوافقها الرأي، بعد جدال مرهق كانت إحدى أكثر لحظاتها مجداً. كنت أقاتل الضجر أحيانا عندما كانت تسرف في الحديث، فحكاياتها كانت كثيرة وشخصياتها يتداخل بعضها في بعض. لم تعرف الحساب يوما، فكانت تحسب عمرها وأعمار أبطال حكاياتها تبعا لأحداث حياتها. بيد أنها كانت مؤنسة بشكل استثنائي تلك الليلة، حسبي أنها كانت مدركة بأن الليلة الطويلة تلك، ستشهد آخر حكاياتها لي.
نشوة لذيذة تشبه نشوة النعاس سرت في أوصالي عندما لاحت تباشير الفَجْر على خطوط وجهها المستدير ليبدو كلؤلؤة جاد بها البحر. حسبته وجها غير قابل للفناء حينها!
ودعت أهلي وقبلتها، قالت لي: متى ستعودين يا ستي؟ قلت لها مناكفة "عندما تعود الطائرة ثانية الى عمان"!
كل شيء حدث على عجل فيما بعد. وبحجم الحب الذي كان يكبر بيننا مُذ كنت طفلة ألوذ إلى سريرها حين أستيقظ ليلاً، كبر الغياب. غابت ستي، بعدما غاب عنها زوجها وابن قلبها وكثير من إخوتها وكل نظرها. غابت فسكن الكون إلا من تجلياتها يوم كانت تمزج الطحين بترويدة أشبه بتعويذة تتغزل بهواء البلاد. الكلمات كبيرة وكثيرة، بل أكثر من المعنى وأعمق من ذاكرتي . لا أذكر فعلا تاريخ وفاتها ولم أرغب يوما بذلك. عن عمر يناهز ألفا وتسعون عاما من البهجة، ماتت، وانسرب الحنين ناراً من أقاصي الغياب. وقلبي -سهل الخدش- توقف تماما عن نبض حضورها، إلا أنه لم يتوقف عن بكاء سنين الفرح في حضرتها. (ويا سنين اللي رحتي ارجعيلي، ارجعيلي شي مرة ارجعيلي، ورديلي ضحكاتي اللي راحوا، اللي بعدا بزوايا الساحات)!