يخبرني أصدقاء تبريرا لعدم تواصلهم معي خلال سفرهم هناك، بأن الصين لا يوجد فيها فيسبوك ولا واتساب، وهما التطبيقان اللذان استخدمهما للتواصل معهم، وهذه معلومة أتفهمها تماما حين تقوم بها أمة كالأمة الصينية، التي تتمتع بهوية حضارية وثقافية تعتز بها، وتحميها من تغول السوق العالمية، وغزواتها الفكرية والثقافية.
فمثل هذه الأمم جديرة بأن تنافس الأمم الأخرى وتؤدي دورها تجاه شعوبها وأفرادها وتحميهم ..
ليس من أجل هذا فقط تحمي تلك الأمم هوياتها، بل -أيضا- ثمة في القصة بعد حضاري وانساني وأخلاقي واقتصادي وسياسي وأمني..فهم يعلمون ما معنى علم نفس تسويقي.
بعض «الفهلوية» البسطاء يستدلون على هذا العلم بالموهبة؛ وهذا ما نفهمه حين يقال عن شخص يبيع ويشتري في السوق بأنه «تاجر شاطر»، ونسمع عن قصص كثيرة ترافق تسويق منتجات ما كانت لتشهد اقبالا من المستهلكين لولا هذه القصص او وجود رسم معين عليها..الشواهد كثيرة ولعل «المرأة» من بين أكثر الرموز التي يتم استغلالها للتأثير النفسي على المستهلك لشراء منتج ما.
شركة «فيسبوك»؛ خسرت مالا يبلغ 8 مليارات دولار في غضون أيام، نتيجة الخبر «الفضيحة» الذي كشف بأن الشركة تتاجر بمعلومات مستخدمي التطبيق العالمي المعروف، وتواترت الأخبار عن فضائح جديدة تطارد الشركة، تتمثل في تجاوزات تعتبر غير أخلاقية، حين يتم الاتجار بمعلومات الناس الشخصية، وتقديمها الى علماء اجتماع وعلماء نفس مختصين، لتحليلها ومعرفة ميول أصحابها، لتوجيههم الى سلع معينة أو الى أفكار سياسية أو أنماط استهلاكية بعينها، وتقول الأخبار بأن هذه عملية تجسس على الأشخاص المستخدمين حول العالم، تطال كل ما يفعلون على صفحاتهم وطريقة تواصلهم مع الآخرين، ودراسة رسائلهم وتعليقاتهم وادراجاتهم واهتماماتهم، حتى حالة الاستقرار العاطفي تقع ضمن هذه الدراسات والتحليلات النفسية، وبهذا المعنى فإن المستخدم أصبح مجرد «عينة» للدراسة والتجريب، ثم يجري توجيهه الى حقل ما من الاهتمام التجاري وغيره.
ليست صدفة أن يمر على صفحتك اعلان ما، فأنت حين أنشأت صفحة على هذا التطبيق أو على أي تطبيق عالمي، وافقت على عدة شروط، وقمت باختيار نوع ما من الدعايات لتصلك عبر بريدك الالكتروني، أو صفحتك على فيسبوك او أي تطبيق تفاعلي مختص آخر، كما أنها ليست صدفة أو اقتراحا عشوائيا أن يتم اقتراح أصدقاء لك من قبل فيسبوك، فهناك معايير يتبعها المبرمجون لمثل هذه الاقتراحات، وهي لا تكلفهم أكثر من كتابة بضع جمل شرط في البرنامج، تعتمد معايير معينة قد تكون مبنية على المنطقة او اللغة أو فئات أصدقائك، واهتماماتك وتفاعلاتك..وهي أسس تتبعها الجهات الاستخبارية العالمية في دراسة المجتمعات وتوجيهها الى صناعة أو مناهضة أو تأييد أحداث ما.
التكنولوجيا؛ اختبار قاس جدا على الشعوب التي لا تنتجها او تملكها أو تتحكم بها، ولدينا كثير من التطبيقات والأنظمة المشتراة من شركات عالمية، وهي تخضع بالكامل لسيطرة تلك الشركات، رغم وجودها في مؤسسات حكومية او خاصة في الدول حول العالم، إلا أن للشركات المنتجة والمصنعة كامل حقوق التوسعة والصيانة، فالمستهلك بهذا المعنى لا يعدو عن كونه مجرد مشغل لنظام، لا يملك عنه شيئا من العلم أو سبيلا للسيطرة عليه والتحكم به واجراء التعديلات المطلوبة ..
الأنظمة التي نتحدث عنها هي كل شيء له علاقة بالتكنولوجيا والكومبيوتر، كالهاتف والتلفاز والسيارة وجهاز الكمبيوتر الشخصي والكاميرات الذكية والخفية، وسائر الأجهزة التي يستخدمها الانسان في أعماله وحياته، حتى الآلات المختصة في الشركات والمؤسسات، كلها تشكل عقولا الكترونية لا نعرف عنها الكثير، لأننا لم نقم بصناعتها، ولم نشارك في أي جزء منها أو يكون لنا رأي بـ»السيستم» أو برنامج الكمبيوتر الذي يشغلها.
فالمستهلك او المستخدم للتكنولوجيا المستوردة هو في الواقع مجرد مشغل مغمض العيون، ويصلح ليكون زبونا لمختلف الجهات العالمية، بل هو في فيسبوك وكثير من التطبيقات مجرد سلعة، يتم بيعها وشراؤها، وهذا يفسر لماذا تتصدر شركة مثل «جوجل» قائمة الشركات الثرية الكبيرة، فهي ليست شركة نفط ولا تسليح ولا صناعات ثقيلة أخرى، هي مجرد شركة تدير معلومات يضعها الناس أنفسهم..
سأنهي المقالة بسؤال يعتمد على علم النفس: لديك رطل جميد كركي بسعر 50 دينارا ورطل جميد من منطقة أردنية أخرى بسعر 30 دينارا، فأيهما تشتري «إن كنت خبيرا بالجميد او ذواقا»؟.. العبارة بين علامات التنصيص تعتمد هذا العلم أكثر من جملة «جميد كركي».
ibqaisi@gmail.com.
الدستور.