جاري ميلر، رجل أعمال أمريكي يقول عن السيدة خديجة: "لا بدّ أنها كانت امرأة عظيمة" مفسّراً قوله هذا أنه يصعب أن تجد في هذه الأيام مَنْ يقول: لقد كنت خائفاً جداً لدرجة أنني ذهبتُ مسرعاً إلى زوجتي! لولا أنها امرأة عظيمة لما فزع اليها مُحَمّدٌ عليه الصلاة والسلام ولما طلب منها أن تضمّه بحنانها وأن تفسّر له ما حدث معه في الغار! لم يفزع إلى عمّه أبي طالب أكبر المدافعين عنه، ولا إلى صاحبه أبي بكر ولم يفزع إلى عشيرته وربما لو فزع إليهم لم يجد ما وجده عند خديجة،

شهادة حق من هذا الرجل بشأن السيدة خديجة لم يفطن اليها الكثير من أبناء المسلمين ولا حتى من نساء المسلمين هذه الأيام، الذين يمرون بنموذج السيدة خديجة مرور الكرام ولا يعبئون بمواقفها النبيلة!

كانت تشعر بخبرتها في الحياة، واتزان عاطفتها، ورجاحة عقلها، أن ذلك الشاب النبيل مُحَمّد عليه الصلاة والسلام يحمل بين جنبيه قلباً شفّافاً، وروحاً تشبه روح الملائكة، فكفته السفر والتجارة، وشجعته على تلك السياحة الروحانيّة التي كان يقصدها كل عام يذهب فيها إلى غار حراء، ينظر من أعلى إلى مكة، ويتألم بعمق لحال أهلها وهم يسجدون ويركعون لأصنام صنعوها بأيديهم.

عجيب أمرها ؟! امرأة تترك زوجها ليغيب عنها شهراً كل عام، غياباً غير مبرر، فما هو بالنبي الذي يوحى إليه آنذاك، ولا هو بالتاجر الذي خرج لمزاولة الأعمال والتجارة، وليس له اصحاب وخلان يسمُر ويسهر معهم في ذلك الغار!!

لكنها بحنين وحب صادقين، دعته يذهب حاملا معه دعواتها، وكانت ترسل له بالطعام، وتبعث بمن يتفقده ويطمئنها عليه، وذات يوم جاءها يرتجف مأخوذا، فما رآه لا يقدر على حمله بشر.

كان وهو يهرع من أعلى الجبل، يتجه بعقله وقلبه ووجدانه إلى امرأة وأيُّ امرأة ..كان خائفاً .. ولم يؤمنه يومئذ إلا امرأة .... كان متردداً حائراً. لم يثبته آنذاك إلا هذه الامرأة.

تلقته بقلبها، ومسحتْ على راسه وهي تسأله عن حاله، فأخبرَها بخبر لقاءه الأول بجبريل، ثم قال لها خائفاً مُلتاعاً: لقد خشيتُ على نفسي.

هنا زادت ابتسامة خديجة المطمئنة، وخرجت الكلمات من فمها تزرع الثقة والقوة في وجدان زوجها: كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصلُ الرحم وتحملُ الكلّ وتكسبُ المعدومَ وتُقري الضّيفَ وتعينُ على نوائبِ الدهر...

تقول له "كلا" فتزيح من ذهنه أي فكرة خوف أو قلق ..ثم يكون كلامها قاطعاً، فتبدأه بالقسم وتختمه بالجزم " والله لا يخزيك الله أبداً" .

لا نريد أن نقارن خديجة الأنموذج في حُسْن التَّبَعُل لزوجها والمثل الأعلى في الوفاء، لا نقارنها بغيرها من نساء العالمين لأنه لا مجال للمقارنة فشتان بين الثرى والثريا، ولكن لنأخذ الدروس والعبر فنحنُ في أمسّ الحاجة الى هذا النموذج الإنساني النبيل وهذه القدوة الرائعة... في زمن أصبحت فيه الفنانات والمطربات هنَّ القدوات وهنَّ المثل.