صحيح أن عقلية ''الدكنجي'' القديمة قد انتهت، حيث كان يمضي ساعاته الطويلة أمام دكّان خالٍ تماماً من البضاعة لأجل تضييع الوقت والمشيخة وتفصيم ''البزر'' ومراقبة الناس..وصحيح انه انتهى زمن ''المنّة'' و''المهتّة'' والذوق الموحّد والإجباري الذي كان يمارسه ''الدكنجي'' على الزبون وأهل الحي بسبب عدم وجود دكان غير دكانه- وذلك بفضل ظهور المتاجر الكبيرة والمراكز الاستهلاكية متعددة الأغراض- الاّ أنها لم تنته بعد عقلية ''التلفزيون الدكّانة'' في أذهان القائمين على تلفزيوننا الوطني..
اجروا ما شئتم من استفتاءات -بشرط ان تكون محايدة- اسألوا الناس في الشوارع، اكفروا مرّة واحدة بمقولة ''الجود من الموجود'' لأن الموجود أفضل بكثير من المعروض، وامسحوا من أرشيفكم المثل القائل: ''اللي بالقدر بتطلعه المغرافة'' لأن العلّة ليست بالقدر وإنما ''بالمغرافة''، وارتفعوا مرة واحدة إلى أذواق الناس، وستكتشفون أن نسبة كبيرة من المشاهدين، صارت لديهم ردة فعل عكسية نتيجة الاحباطات المتكررة من أداء التلفزيون، ولم يعد من المفاجئ معرفة أن عدداً كبيراً من المشاهدين نادراً ما يتابعون التلفزيون الأردني، حتى ان بعضهم تطرّف في إحباطه و''شفّر'' القناة منذ زمن طويل ..سؤال ملح اطرحه بخجل هنا - فلتسامحونا- إذا لماذا كل هذا الإصرار على البثّ..؟ .
حتى في أوقات الشدة لم نكن نجده، عندما تعرّض الأردن للتشكيك بمواقفه العربية قبل أسابيع، كانت تبثّ شاشتنا برنامجاً عن ''الزمّارين'' وعن أطوال المزامير وأنواعها، وعدد الثقوب في كل نوع، ومقاطع لا بأس بها لوجنات منفوخة أثناء العزف في مدّة تزيد عن ساعتين، ليس هذا فقط، عند ورود أي خبر عاجل مثلاً..ستلاحظون انه يبث في قنوات الدنيا كلها بدءاً بالجزيرة وانتهاء بتلفزيون جزر القمر، الا شاشتنا .. فستجدونها تبث برنامجاً عن ''الصخور'' البازلتية..لا أدري ما سرّ ''غرام'' مدراء البرامج بالصخور البازلتية!! لا نبالغ ان قلنا أنه قد افرغ تماماً من محتواه حتى محليّاً، قبل أيام قليلة قرروا توقيف برنامج وجهاً لوجه للزميل الإعلامي المتميّز سميح المعايطة، لأنه برنامج جريء وشفاف ويكاشف المسوؤل ويسمع صوت المواطن..وقد أوقفوا قبل شهور برنامج دليل المستهلك للزميل عبد الوهاب الطراونة لذات الأسباب ثم أعادوه لاحقاً، لما كل هذا الرعب؟!! اذا لم ننفتح على انفسنا الآن، متى سننفتح اذن؟..
لقد فعلتها تلفزيونات كثيرة، أذكر منها أبوظبي، الشارقة، دبي، الكويت..توقّفوا عن البث الفضائي فترة واقتصروا برامجهم على نشرات الأخبار والتغطيات المباشرة، والبث الأرضي فقط..غابوا عن الفضاء شهوراً ثم عادوا بقوة من حيث الشكل والمضمون بعد أن غيّروا نهجهم واستدركوا متطلبات الإعلام الحديث وها هم يحتلّون الآن صدارة القنوات من حيث المتابعة..
حتى يطلع من ''تلفزيوننا فايدة''، لا بد من ان يتحقق شيئان اثنان على الأقل؛ الأول: أن تضع ادارة التلفزيون نصب أعينها المنافسة الحقيقية مع باقي الفضائيات، الثاني: ان يصبح التلفزيون، تلفزيون دولة.. وبناء على هذا يجب الاّ يعين مدير التلفزيون من قبل الحكومة وانما من قبل جهات أكثر مرونة كمجلس إدارة مستقل مشكل من خبراء ومهنيين، غير معينين بالتقادم أو بحكم المنصب والوجاهة.
*** وغير ذلك سنضطر للقول من جديد: غطيني يا كرمة العلي ما فيش فايدة.
ahmedalzoubi@hotmail.com