الحق أولى أن يتبع , والمتهم بريء حتى تثبت أدانته , وتبرئة مائة مذنب أخف من أدانة بريء واحد .
والساعون وراء العدالة لايلتفتون الى ضوضاء الاعلام ولا الى صيحات الرأي العام .
تلك قواعد يعرفها رجال القضاء ويحرصون عليها ويهمنا جميعا أن تستمر صلبة حتى نطمئن جميعا بأن القضاء ملاذنا الاقوى الذي لاتهتز أركانه ولا تلين قناته .
أقول هذا الكلام بعد تأمل طويل ودراسة وافية لما يسمى ( قضية البورصات ) التي أخذت في كثير من جوانبها أبعادا في الرأي العام وفي الاعلام بعيدة كل البعد عن الواقع القانوني فأصبحت مثل زوبعة ضربت حقلا لم تميز فيه بين السنابل المثمرة وبين الاشواك المؤذية , ولأن عدد المنغمسين في قضية البورصات يعد بمئات الالوف فقد أصبحت تهدئة الرأي العام وأستعادة الجزء الاكبر من الاموال هدفا بحد ذاته وأتخذت الاجراءات القانونية والقضائية باتجاه الهدف تماما كما هو مسار الزوبعة التي تضرب الحقول .
لقد حمل الرأي العام والاعلام على أصحاب الشركات المتعاملة في البورصة العالمية بدون تمييز , وأصبح البحث عن الحقيقة أشبه بالبحث عن أبرة في كومة قش , وذلك لأننا أكتشفنا أن عشرات ممن لايملكون أي خبرة أو معرفة بأسواق البورصة العالمية تطفلوا على المهنة وأندسوا بين خبرائها فخدعوا عشرات الالاف من المواطنين بألاعيب تدغدغ أمنيات الربح السريع في قلوب البسطاء منهم أو توقظ كوامن الجشع لدى أخرين , حيث قاموا بجمع الاموال من الناس في المدن والقرى ووعدوهم بربح ( فائدة ) شهرية ثابتة تصل الى25 % وكان دفع الفائدة أحيانا الى بعض الناس الطعم الذي جذب الالاف الى الفخ .
هذه هي القضية الاساسية باختصار , جمع الاموال من الناس لتشغيلها عنهم مقابل ربح أو فائدة شهرية , حيث تبين أن الفوائد وهمية فأصبح الموضوع أحتيالا معاقب عليه بموجب قانون العقوبات .
ولكن هناك فئة قليلة من شركات التعامل بالبورصات , عملها يختلف تماما , وهي موجودة في الاردن وفي كل دول العالم تقريبا وتمارس عملها تحت الشمس وبحماية قوانين دول متقدمة أقتصاديا ,أما في بلادنا فقد سحبت ( تسونامي ) التعامل بالبورصة الصالح والطالح , وتم وضع الجميع في دائرة الاتهام وتحت قيود قضائية وقانونية , دون أن يتقدم أحد من خبراء القانون ليقول أن وضع الجميع في سلة واحدة سيفقد الثقة بالنظام العقابي الاردني .
الفئة المحدودة من شركات البورصة التي أشرت اليها , لاتجمع أموالا من الناس ولا تعدهم أو توزع عليهم فائدة شهرية ولا أرباحا ثابتة , وانما تعمل وفق نظام معروف عالميا يسمى ( forex ) , وهي ببساطة نافذة أستثمارية على البورصة الدولية , فيكون لكل من يرغب بالاستثمار حساب خاص به قل أو كثر وله رقم سري خاص به ومن خلاله يتعامل مع البورصة العالمية عبر النافذة التي هيأتها له الشركة المحلية , وهو من يقرر الشراء ومن يقرر البيع وأين وكيف بدون تدخل من أحد , حسابه بين يديه ونقوده تحت أمرته أن أشترى أو باع فهو وحده من يصدر أمر البيع أو الشراء , حسب الاسعار العالمية المكشوفة أمامه على شاشة الكمبيوتر , ويستطيع سحب نقوده في أي وقت ,وهذا بالضبط نفس النظام الجاري به العمل في أوروبا وأمريكا واليابان , ببساطة فان العميل يتاجر بنفسه ومنهم من يربح ومنهم من يخسر ومنهم من يستمر ومنهم من يسحب نقوده وينسحب , تماما مثلما يجلس المستثمرون في قاعة التداول في سوق عمان المالي ويشترون ويبيعون بأوامر شخصية منهم عبر الوسيط , بل أن التعامل في البورصة الدولية يجري مباشرة من العميل الى السوق . وهذا التعامل موجود في كل الدول , فأين هو الاحتيال الذي دفع بهؤلاء الناس الى التحقيق والسجون ؟! .
ولعل ما لايعرفه الناس أن عددا من القضايا التي نظرتها محاكم عمان النظامية في مثل هذا النوع من قضايا البورصة قد صدرت بها أحكام قطعية بعدم المسؤولية حين تبين عدم وجود أحتيال وأن المشتكي هو من كان يتاجر وليس الشركة .
ان ما يرضي الرأي العام والجهات السياسية الان هو أستعادة أكبر قدر ممكن من الاموال من بين أيدي أصحاب شركات ومؤسسات ( البورصة ) كافة صالحهم أو طالحهم تحت طائلة الحجز والتوقيف , ولسان حال الناس يقول أسجنوهم جميعا وأحجزوا أموالهم وأموال عائلاتهم وأمنعوهم من السفر جميعا دون تمييز حتى يدفعوا أكبر قدر من المال الى صندوق نيابة أمن الدولة ثم وزعوا الاموال علينا !! , وفي هذا أنجاز مؤقت ولكنه غير دائم النفع ومخاطره أكثر من نفعه وبالتأكيد فان رجال النيابة لن يفعلوا ذلك ولن يقبلوا به تحت ضغط الرأي العام لأن ما يرضي رجال القانون والعدالة أنسجاما مع صلابة وشفافية النظام القضائي الاردني هو أن يدفع المذنب ثمن جريمته بغض النظر رضي الرأي العام أم لم يرض , حققت الجهات السياسية مكاسب أعلامية أم لم تحقق .
علينا جميعا أن نميز بين الصالح والطالح , بين البريء وبين المذنب , وبقدر ما يمتلك النظام التحقيقي هذه الخاصية بقدر ما يوصف بالتطور والكفاءة والعدالة , وان تبرئة عشرة مجرمين أخف ضررا على النظام القضائي والاجتماعي من تجريم بريء واحد .