ساخرا من المرض وهازئا من الوهن العارض، يذهب خليل قنديل كل يومين إلى المستشفى ليغسل الكلى بعدما دهمه المرض فجأة وهو في قمة إقباله على الحياة والإبداع والفرح.
ولئن رحنا، نحن أصدقاءه الذين كنا ننتظره بشغف في "الأوبرج" كل ثلاثاء، نتفقد المقاعد التي كان يجلس عليها، إلا أننا لم نعدم الإيمان بأن يعود خليل إلينا وإلى الساحة الأدبية التي رصع دفاترها بأجمل القصص منذ مجموعته الأولى "وشم الحذاء الثقيل" مطلع السبعينيات، حتى "سيدة الأعشاب" التي صدرت أخيرا، وكشفت عن مدى البوح الذي يختزنه خليل في مخيلته وينتظر الأيام القادمات الخاليات من الغسل المتكرر للكليتين الواهنتين كي يكمل مسيرة السرد التي بدأها منذ قصة "المعطف" وما انفك يخاتل الكلمات العاريات من أجل أن يلبسها معطفا من الجمال الآسر والبلاغة الزاهدة المتقشفة.
أقول لخليل ممازحا: متى تعود إلى ندمائك الأبرار، فتطرز المساءات بروحك العذبة ونكاتك التي تعكس روحا صافية وذهنا موّارا بالفطنة والألمحية، فيأخذ بالشرح لي عن حصته التي قررها له الأطباء من الماء، فأشعر بأن من حق الدولة على هذا الأديب، الذي تدرّس قصصه في مناهجنا المدرسية، أن توليه عناية استثنائية وأن تتولى عملية علاجه، وتساعده في رحلة البحث عن كلية مناسبة له، وهذا أمر ليس مستغربا على الدولة الأردنية التي لطالما أسندت أرواح المثقفين والفنانين، ومسحت بيدها الدافئة على قلوبهم من غير منّة، ومن دون تبرم.
ولسوف يتفاجأ خليل من مقالتي هذه، فهو لم يطلب مني أن أناشد الدولة أن تساعده، وهو لفرط تواضعه، ولسمو روحه، وسموق أخلاقه، قال لي بكل بساطة حينما سألته عن الحل: سأنتظر على الدور في مدينة الحسين الطبية، حتى يفرجها الله فيمنحني كلية ميت قضى في حادث، أو شيء من هذا القبيل.
يتحدث خليل عن جسده، كما لو كان منفصلا عنه تماما، ويشتقّ تعبيراته بحياد كامل، ولعله بذلك يراود الألم ويصارع فكرة الموت، وأزعم بأنه سيصرعه، ويعود كما كان إلى متن الكتابة والعالم والجلسات ويطلق ضحكاته المجلجلة، ويزرع على وجوهنا الحبور والألق.
اتصلت بخليل قبل يومين لاطمئن عليه، فكان يلهث، فقلت في سري: لعن الله المرض، لأنه شرق أثناء الحديث ولم تكتمل المكالمة. وأمس حادثته وأنا في غاية القلق، فأخبرته أن صوته الآن أحسن وأن إعياء أول من أمس قد زال، فأبلغني بأنه كان عائدا من السوق ويحمل بيديه أكياسا عديدة من الخضار والفواكه والدجاج المذبوح للتو، لهذا لم يتمكن، بسبب هذه الحمولة التي تحتاج بكبا، أن يواصل المكالمة.
ضحكت من حديثه المحشو بالتفاصيل والمفارقات، وغَبَطُته على احتفاظه بسخريته الطازجة رغم مصاعب التعايش مع عضو معطّل في أحشائه.
نادرون أولئك الذين ينتسب خليل قنديل إليهم، لأنهم يعلموننا الصبر والمقاومة، ويدربون أرواحنا على معانقة الحياة بكل صخبها وجموحها.
خليل، نحن في حاجة ماسّة إليك، لأننا في حاجة ماسّة إلى الأمل.
m.barhouma@alghad.jo
** الزميل الكاتب رئيس تحرير يومية الغد ..