يخيّل إليّ أحيانا أن المقبرة محبرة ،وان القبور أقلام ممدّدة..وما خُطّ على السياج الطويل هي خربشات حيّة كتبت فوق الرؤوس المرتاحة لكي لا يقرأها أحد..
اكتشفت أخيراً، أن أكثر العبارات عمقاً وأكثرها تكثيفاً حول الحياة تلك التي كتبها العابرون على سياج المقبرة من مكلومين ومحبطين وسكارى هاربين من خداع الأحياء ، بعضهم كتبها بالطبشور والآخر بقطعة فحم وثالث بأداة حادة جرح بها وجه السياج الصامت وخطّ عباراته..كما أن أكثر العبارات السياسية قوة وسخرية تلك التي تكتب على الأبواب الداخلية لدورات المياه العامة..وكأن العربي لا يأتيه وحي الحكمة عن الحياة سوى فوق رؤوس الموتى ، ولا تأتيه قوة التعبير وامتطاء صهوة الحرية والشعور بالأمان سوى في الحمّام العام ففيه يكتب كل ما يجول في الخاطر من مختلف التوجهات والمذاهب السياسية دون الخوف من الملاحقة فالحبر يكتب بجانب الحبر وفي هذا المكان يتعفف خبراء الخطوط من الحضور لمعرفة الجاني..
وعودة إلى عبارات المقابر الأكثر عمقاً، كتب أحدهم على جدار مقبرة في حيّنا بخط مقروء وكبير ( ما حد..يسرق حبيب حد..لكن الرخيص كلّن يجيب راسه).. وكتب آخر في باطن السياج ( لقد قتلوا الصدق برصاصة كاذبة)..(إنكار الجميل هو ان يكسر الأعمى عصاه بعد أن يبصر)..(الغربة هي أن تفتقد حديث من تحب)..(لست صديقا ولا حبيباً..أنت حياة )..وغيرها الكثير من الحكم كتبت بخطوط مختلفة وأزمان مختلفة وظروف مختلفة ،من الذي يستطيع ان يقف بين كل هذا الموت المعتّق ليستخلص عصارة حياة ، كيف تأتيه العبارة ؟ وان كان ناقلها لم أراد وضعها هنا بين الوسائد الحجرية حيث لا أحلام ولا خيبات ولا غد مختلف؟..على أية حال ظاهرة الكتابة فوق رؤوس الموتى تستحق الدراسة في عالمنا العربي..ولو أنني أخشى ان أتهم بالجنون..لقلت ان هذه العبارات قد كتبت بأيدي الأموات في استراحة الليل او بين غفوتين..لأنها حكم الغائب و خلاصات المجرّب...
الرأي