يوسف غوانمة .. تحية وفاء وعرفان
د. بسام البطوش
25-04-2018 05:46 PM
في مطالع الثمانينيات من القرن الماضي كنت طالباً في قسم التاريخ الناشئ للتوّ في جامعة اليرموك، وقد تولى تأسيسه ورئاسته الأولى لسنوات عدة مؤرخنا وأستاذنا الدكتور يوسف غوانمة. لا تراوح البال صورة أستاذنا الجامعي الصارم الذي تراءى لنا أنه شديد الحزم، يلفت النظر بوسامته وأناقته واعتداده بنفسه.
وفي تلك البدايات وفي ذاك العمر، وفي توقد المشاعر والأيديولوجيات بدت لنا توجهات أستاذنا العروبية الواضحة، من خلال محاضراته وأفكاره، و كتاباته واهتماماته، وكانت للطلبة اتجاهاتهم المتنوعة، وكانت جامعة اليرموك في ذاك الزمن الجميل تحتضن الجميع، وتوفر منابر متعددة لتبادل الأفكار، وإتاحة العمل الطلابي بأبعاده الفكرية والثقافية والسياسية بحرية ورقي أمام الجميع، ولم يكن من بين ملامح الجامعة شيء من التعصب أو العنف او الانغلاق.
في هذه البيئة الأكاديمية الرفيعة كانت محاضراتنا في قسم التاريخ مليئة بالجدل والحوارات والتدافع الفكري والعلمي، وكان حماس الشباب يتخطى ما يضعه الأساتذة من ضوابط ومحددات، لكنهم كانوا سعداء باهتمامات طلبتهم وبما يتحلون به من جرأة وصراحة لا تخلو من البراءة.
اتفقت أم اختلفت مع الدكتور غوانمة، لا يمكن أن تراوح صورته البال بسهولة، فهو شخص قادر على ترك الأثر والانطباع في نفوس معارفه؛ فما بالك طلبته.وليس من الأساتذة الذين يمكن أن ينساهم طلبتهم.
تباعدت بنا المسافات ومرت السنون، وبقي التلميذ يتابع أخبار أستاذه ومؤلفاته ومقالاته. ولما أصبح التلميذ عميداً في إحدى الجامعات فوجئ بأستاذه غوانمة يزوره في مكتبه لا لسبب سوى للسلام على طالبه والتعبير عن اعتزازه به وإهداءه بعض إصداراته! وبقي هذا التواصل ممتداً وعميقاً، وكان آخر إهداءات الأستاذ لتلميذه كتاب مذكراته الشخصية وسيرة حياته.
يوسف غوانمة أردني قروي ولد في بيئة ريفية تنتمي إلى شمال الأردن، تلقى تعليمه الأولي في كتّاب القرية، وتعليمه الابتدائي والثانوي في مدينة إربد الواقعة في سهل حوران الممتد بين شمال الأردن وجنوب سوريا.
انخرط في العمل الحزبي مبكراً لمّا انتمى لحزب البعث العربي الاشتراكي بينما ما زال طالباً في المدرسة، وكانت بلا شك تجربة عابرة، وتولى رئاسة ما يمكن تسميته اتحاد الطلبة الأردنيين في العام 1955. وهو إطار نقابي بسيط استحدثه حزب البعث لتنظيم طلبة المدارس الثانوية آنذاك. وإن كانت تجربته الحزبية محدودة ولم تطل وهنا بدأت تتشكل شخصية غوانمة في إطار بيئتة الأردنية منفتحاً على الفكر والهم القومي العربي والعمل الحزبي في بواكير صباه، مراقباً للآثار الناجمة عن نكبة فلسطين 1948والمتمثلة في اللجوء الفلسطيني إلى مدينته إربد، وملاحظا أحداث الحرب وبعض صورها المشاهدة في شمال الأردن.
في هذه البيئة بدأ يتشكل وعي الشاب غوانمه، وبدأت تُبنى اهتماماته وانشغالاته الوطنية والقومية، وبدأت ترتسم لديه حالة الغضب على الاستعمار والصهونية، والإعجاب بالحركات القومية والتحررية في المنطقة العربية، وعلى رأسها ثورة يوليو 1952 في مصر بزعامة عبد الناصر، ومتابعة أحداث تأميم القناة، وحرب السويس أو العدوان الثلاثي على مصر. بدأ حياته العملية معلما في مدارس وطنه الأردن، وفي المملكة العربية السعودية، وحصل على شهادته الجامعية الأولى في تخصص التاريخ من جامعة دمشق اثناء عمله، أما درجتي الماجستير والدكتوراه فقد حصل عليهما من جامعة الاسكندرية، في عامي 1976 و 1978 على التوالي، حيث تفرغ سنوات في ربوع مصر للدراسة والبحث والتأليف. وبعد نيله درجة الدكتوراه عاد الى وطنه الأردن، ومدينته إربد ليجد جامعة اليرموك قد قامت عام 1976 على بعد خطوات من منزلة في الحي الجنوبي في اربد، والتحق بها محاضرا، وقررت الجامعة ابتعاثه لعام دراسي يمضيه في جامعة برينستون في الولايات المتحدة الأمريكية 1979. وعاد ليتفرغ من بعد استاذا مساعدا في كلية الآداب بجامعة اليرموك، وامتدت مسيرته في جامعة اليرموك ما يناهز ثلاثة عقود، تولى خلالها عددا من المواقع الادارية والأكاديمية، ونال بدراساته وأبحاثه الثرية درجة الأستاذية عام 1987، والى جانب اشرافه على تأسيس قسم التاريخ ورئاسته لسنوات عدة، فقد تولى تأسيس كلية التربية والفنون، وتولى عمادتها، ثم تولى عمادة كلية الآداب في جامعة اليرموك. وقد أشرف على عدد كبير من طلبته في درجتي الماجستير والدكتوراه تركزت دراساتهم في تاريخ الأردن وفلسطين وعموم بلاد الشام في المرحلتين الأيوبية والمملوكية، وهو مؤسس ورئيس المنتدى الثقافي في اربد، 1982-2008. إضافة الى عضويته في رابطة الكتاب الأردنيين، واتحاد الكتاب الأردنيين، واتحاد المؤرخين العرب.أنعم جلالة الملك على الاستاذ الدكتور يوسف حسن سلامة الغوانمة بوسام الحسين للعطاء المميز من الدرجة الاولى، وذلك بمناسبة الاحتفال بذكرى عيد الاستقلال عام 2014، تقديرا لعطائه العلمي والأكاديمي المتميز على مدى سنوات طويلة، ولجهوده المخلصة في إثراء الحركة الثقافية والفكرية في الأردن خصوصا وأنه يعد واحدا من أبرز المؤرخين لتاريخ الأردن وبلاد الشام عبر قائمة طويلة من مؤلفات صيغت بمنهجية رصينة لتكون معلما على طريق الاجيال القادمة، كما قام بتأليف العديد من الكتب في التاريخ السياسي والحضاري وعن عدد المدن الأردنية والفلسطينية منها عمان والقدس والكرك والسلط واربد والعقبة، واعد دراسات لعدد من القضايا الوطنية والقومية.
واجمالا تركزت جهوده في التاريخ الاسلامي الوسيط فيما يخص منطقة شرقي الأردن وفلسطين أو جنوب سورية كما يفضل غوانمه أن يطلق عليهما، وامتدت جهوده البحثية من العصر الأيوبي الى العصر المملوكي، ثم كتب في تاريخ الأردن الحديث، والثورة العربية الكبرى.
ولم تكن اهتماماته هذه خالية من الهدف الفكري والوطني الذي كان يحدو مؤرخنا في كل مناشط حياته، إذ يقول: "كانت رغبتي منذ أن بدأت أحلم بالدراسات العليا أن أكتب في تاريخ الأردن، وكان ذلك تحدي لي، لكثرة ما أساءوا إلى الأردن، وأنه كيان بدون تاريخ، وأنه مجرد ممر للقوافل ودون سكان أو عطاء حضاري".
وعلى غرار اهتمامه بالتأريخ لشرقي الأردن، كان حريصاً على التأريخ لفلسطين في إطار تأكيد الترابط بين القُطرين، فهما يشكلان سوريه الجنوبية أو الجزء الجنوبي من بلاد الشام، وهما- في قناعته - شهدا عبر العصور التاريخية ظروفاً وأحداثاً مترابطة، وفي العصر الإسلامي الوسيط في العهدين الأيوبي والمملوكي - وهما مجال الاهتمام الرئيس لمؤرخنا غوانمة- نجده يهتم بإبراز التكامل والتعاون بين الأردن وفلسطين في مواجهة الغزو الصليبي، كما سعى إلى ربط الماضي بالحاضر عبر المقارنة بين ظروف الاحتلال الصليبي (الفرنجي) لبلاد الشام، ومن ضمنها فلسطين والاحتلال الصهيوني المعاصر لفلسطين، والوقوف على المشتركات بين المرحلتين، والإفادة من دروس تلك التجربة، وتوظيف دروسها وعبرها لمواجهة الغزو الصهيوني اليوم. إذ يقول: "أجد تشابهاً بين الحركة الصليبية والحركة الصهيونية اللتين احتلتا فلسطين العربية، فقد كانتا حركتين استعماريتين استيطانيتين، دعمتهما أوروبا في الحالتين، لكن في عصرنا هذا دخلت الولايات المتحدة لدعم الحركة الصهيونية". كان حافزه فهم الماضي لفهم الحاضر، ودراسة تلك الحقبة التاريخية، والتوقف عند عوامل الهزيمة والانتصار فيها للإفادة منها اليوم، إذ إن غوانمة يؤمن بأهمية الرجوع إلى التجربة التاريخية للأمة لتتمكن من معالجة أدواء الحاضر.
* تشكل هذه المقالة اطلالة على ورقة علمية كتبتها بعنوان(يوسف غوانمه مؤرخا) قدمت لمؤتمر فيلادلفيا 22.