ربما يكون مفهوم القيادة إحدى أكثر المفاهيم تعقيداً، حيث يولد البعض ليكون قائداً، بينما يتعلم الآخرون القيادة، ومع ذلك يتوجب على جميعهم العمل بشكل مستمر للحفاظ على قيمهم الخاصة، يقول "بيتر دراكر" أحد أكثر المفكرين المؤثرين في علم الإدارة، "يحتاج معظمنا إلى تعلم كيفية إدارة ذواتنا وتطويرها، ووضع أنفسنا في المكان الذي نستطيع فيه أن نقدم أكبر مشاركة ومساهمة".
وحيث أننا نعيش في عصر الثورة الرقمية عصر حرية التعبير والخوف من التغيرات المتسارعة، فالتحديات الآن مختلفة، حيث نرى التفاوت المتزايد في الدخل، البطالة الهيكلية المستمرة بسبب الرُّكود في بيئة الأعمال، تقلص الثقة في السياسات الاقتصادية، أضف إلى ذلك الافتقار إلى القيادة الحكيمة والواعية لهذه المتغيرات، فما نجح من أجلك أمس قد لا ينجح غداً، لذلك تجد أن القائد الموهوب أياً كان موقعه يسعى جاهداً لتحقيق النجاح والوصول بالمؤسسة نحو هدفها وسط قوى سوق غير ثابتة وغير متوقعة لا يمكن التنبؤ بها، ويكافح من أجل تجسيد قيمه وتوجيهها نحو الصالح العام.
لذلك نجد أن احد أكثر العوامل أهميه بالنسبة للقائد الناجح هو أن يكون حقيقياً وأن يحافظ على قيمه، فلا بدّ أن يُظهر حقيقته وما هو عليه لا أن يكون تقليداً للآخرين، فالمصداقية هي حجر الزاوية في أمانة القائد وهي المؤشر على مدى معرفته لذاته وقدراته وتقبله لحقيقته حتى يتمكن من تطوير وتحسين مهاراته القيادية.
في كتاب صدر عام 2016 لأخصائية علم النفس في مجال الإدارة "كاريسا ثاكر" بعنوان "فن المصداقية" ذكرت الكاتبة بعض من أهم الخصائص والسلوكيات التي ينفرد بها القادة الناجحون، حيث سلطت الضوء على المصداقية وأوضحت بأن جوهر المصداقية يكمن في تقبلك لذاتك وحقيقتك التي تشمل كلاً من نقاط القوه والضعف، وبالتأكيد فإن هذا الأمر يتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة الأخلاقية عندما يتم تحدي قيمك وعلاقاتك بخيارات متضاربة خلال سعيك لإيجاد طريقة للتوفيق بين هذه الخيارات بحلول مبتكره وخلاقه في كثير من الأحيان.
وتطرقت إلى ذكر بعض الأدوات والمهارات التي يحتاجها القائد ليصبح شخصاً حقيقياً وصادقاً وقائداً أفضل من خلال التفكير، والعمل، والاختيار الواعي، وكيفية الحفاظ على المبادئ الخاصة به بينما يقود فريقه بفعالية، وذلك من خلال استبدال ردود الفعل المعتادة بأخرى حقيقية.
والسؤال هنا، كيف تبقى صادقاً مع نفسك بينما تقود الآخرين؟ إن غرس المصداقية هو مفتاح النجاح في عصرنا الحالي لأن المصداقية تعني أن تتمتع بالشجاعة الكافية لتكون نفسك رغم كل المخاوف التي تدور حولك أو تنبع من داخلك، إنها أكثر من مجرد هدف نبيل، إنها جزء أساسي من فعاليتك ومن قدرتك على جمع الناس معاً لأنك تدرك أنه لا يمكنك فعل شيء بمفردك في مكان العمل اليوم، هذه هي القيادة الحقيقية، فالمصداقية هي أفضل طريقة للقيادة، إنها طريقة فعالة لتحقيق النجاح المستدام في عالم الأعمال.
فالنجاح اليوم هو حليف الأشخاص الذين يعرفون كيفية العمل مع الآخرين من أجل تخطي الصعوبات وتحقيق الأهداف، لذلك نلاحظ ارتفاع مستوى الانجاز بالشراكة مع الآخرين خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، فلم يعد الاعتماد على "السلطة" التي تعني الافتراض بأن الناس سوف يفعلون ما نقوله فقط، بل نلاحظ وجود أفكار جديدة ورعايتها وتغذيتها، والتعاون من أجل النجاح، وتحديد كيفية القيام بذلك يُعد أحد الاستراتيجيات الهامة في تدريب القيادة الفعَالة الآن.
هذه دعوة إلى المصداقية الحقيقة، فنحن جميعاً بحاجة لأن نتعلم قيادة أنفسنا، والقائد الذي يتمتع بالمصداقية هو القادر على إلهام فريقه، ولأن المصداقية مُعديه فإنه بالتالي سيكون حافزًا للتغيير الإيجابي الذي تحتاج إليه مؤسسته، وقائداً استثنائياً يُحتذى به في الصدق، فجوهر المصداقية هو أن تكون صادقاً مع نفسك وأن تُظهر شخصيتك الحقيقة وبالنتيجة أن تعرف ما تريده حقًا.