كنا أولاداً طيبين، ليني الرؤوس، نقبل على الحياة وعصافير أرواحنا مربوطة بخيوط اللعب. نقطع نهاراتنا بالمرح. في الصيف نهب للبساتين، نبني في الوادي بركة نتبلبط فيها كسمك مفزوع، ونؤوب للبيوت مع مبيت الدجاج في الشفق، وكنا نمد فراشنا للحاف السماء، نعابث النجوم، وندغدغها من تحت إبطها، رغم تخويف الجدات، أن هذا يورث أيادينا ثألولة بكل نجمة نعدها.
وكنا منزوعي الدسم، لكننا أقوياء، صبورون، بشهادة الآباء والأجداد، الذين كانوا يحرثون علينا بالطلبات والأوامر النزقة، كنقل الحجارة لبناء السناسل (الأسوار الحجرية)، أو تمهيد الأرض، أو إسترجاع حمار حرون قطع حبله وطار حتى وصل تخوم الصين.
أجساد نحيلة، كأعواد الخيزران، نركب بها أجنحة الريح؛ نسبق أصواتنا وأصداءها، ونطارد فراشات بسبعة ألوان، أو نصطاد صرصاراً طناناً، قرر أن يعتصم على رأس شجرة سرو شاهقة كمئذنة الجامع. وما أجمل أن يميد بك السرو مترنحاً قرب غيمة!.
كنّا مشدودين كالنوابض، نمتطي العصي الطويلة (الشواريط)، التي ترفع بها أمهاتنا حبال الغسيل، نتخذها أحصنةً لنقاتل أشرار الأرض، بسيوف القصب، وأناشيد اللهب. وكنا لا نأكل إلا على جوع، فعندما تشقشق عصافير البطن نهرع نشقُّ خبزةً، كراحة اليد ونُخضِّبها بالزيت، ونرشُّها بالسكر، فتصنع فينا قنبلة نووية.
أطفالنا في هذه الأيام باتوا (مربربين)، مكتنزين بالهبر والشحوم والخصور المتورمة، ولهذا أحاول أن أتذكر، زماننا القريب. هل كان بيننا ولد سمين في الحارة؟!، هل كان أحدنا يجرجر كرشه ولهاثه ويثقله ظله مثل هذه المشاهدات التي صارت عادية في حياتنا؟!. أسترجع كل الصور، وأستذكر أصدقائي العفاريت: واحداً واحداً.
وكلما رأيت طفلاً مفرط السمنة كفيل صغير يتدحرج؛ ألوم أهله، وأستنكر ثقافتنا المخدرة، وكلما رأيت شطيرة أكبر من رؤوسهم، يتصرعون معها في مطاعم للوجبات السريعة. أقول ماذا فعلنا بأولادنا؟!، كيف سمحنا لهم أن يكنزوا بكل هذا الشحوم، وبذور الأمراض؟!.
كيف تركناهم نهباً لقلة اللعب والتسمر أمام شاشات التلفاز، وكيف تركناهم أسرى ألعاب الحواسيب والموبايل طيلة الوقت؟!. كيف تركناهم ينتفخون لتستعصي عليهم بضع درجات صعوداً، دون أن يدلقوا ألسنتهم لهاثاً؟!.
تشير دراسة صحية إلى أن أكثر من ربع طلبة مدارسنا مصابون بالسمنة، وهذا من شأنه أن يزيد نسب الإصابة بالسكري وأمراض الغدد المزمنة، والفشل الكلوي والعيون. ولهذا فليس علينا أن نعيد النظر بمناهج التدريس، بل أن نعيد الشأن أيضاً للعب والحركة والتفاعل الإنساني المباشر، بعيداً عن حياة معلبة نحياها، ونجيرها لأولادنا بكل كسل!.
الدستور