الصياغة القانونية بين التطبيق والفهم الصحيح
راتب ابو زيد
19-04-2018 11:37 AM
تُعتبر التشريعات من سماتِ الدولةِ الحديثةِ، لما تتضمنهُ من قواعد عامة ومجردة، يُحتكَمُ إليها في جميعِ مناحي الحياةِ من قبلِ أفراد المجتمع، فهيَ ترسمُ مَنهجَ الحياةِ العامةِ، وتحدِدُ الحقوقَ والواجباتِ، وتَحكمُ العلاقاتِ المختلفة، وقد اتبعت الدولُ في سبيلِ وضعِ هذهِ القواعد التشريعية مَناهِجَ مُختلفة، وحَددت لوضعِها مؤسساتٍ تشريعيةٍ، تُعبّرُ عَن إرادةِ المُجتمعِ، ولديها خِبراتٌ متنوعة في جميعِ المجالات ...
وتَهدفُ المؤسسات التشريعيةِ عندَ وضعها لهذهِ القواعد أن يَتمَ الإلتزامُ بها، وأن تُطبقَ على الجميعِ بنفسِ المعايير، وكما أرادت أنْ تُطبق ، لِذلك فهيَ تسعى إلى أن تكونَ هذهِ القواعدَ واضحة ومنضبطة، لا تقبلُ التأويلَ أو الإختلافَ في التطبيقِ، ولمّا كانت القواعد تخاطبُ عادةً أفرادَ المجتمعِ للإلتزامِ بها، فيجبُ أن تكونَ لغة هذهِ القواعدَ نفس لغةِ المجتمعِ، سهلةَ الفهمِ دونَ استخدامِ عباراتٍ أو صيغ تحتاجُ لفهمِها إلى خبيرٍ في اللغةِ العربية ..
إن البساطةَ في صياغةِ القواعد القانونية ينعكسُ على فَهمِها وتطبيقها، وهي غايةُ المشرع ومراده، وانسجامها مع قيم المجتمعِ وعاداتهِ يُساعدُ على هذا الفهم، فليسَ من المنطقِ استيراد قواعد وضِعت لمجتمعٍ ثم تطبيقها كما هيَ في مجتمعٍ آخر، ثم العودةُ إلى أصلِ تلكَ التشريعاتِ لتفسيرِ ما يصعب فَهمه من قواعدٍ مستوردة باعتبارِها المَصدرَ التاريخي لها ..
ومع تعقيدات الحياةِ ومستجداتها وتشابُك المصالحِ المختلفة تزايدت أعدادُ التشريعات، فأصبحَ الإلمام بها جميعاً في الذاكرةِ من المستحيلاتِ، كما أن إجراءَ التعديلاتِ المختلفةُ على تلك التشريعاتِ يزيدُ من صعوبةِ الأمرِ، بل إن الأشخاصَ المشتغلون بالقانون من قضاةٍ ومحامين ومستشارين، يصعبُ عليهم مُواكبة التشريعاتِ المستجدة وتعديلاتها، وبعض هؤلاء أنفسهم لديهم فهمٌ مختلفٌ للقواعدِ التشريعية، قد يكونُ ناجماً عن إختلافِ المدرسةِ القانونيةِ التي تعلموا فيها، فالذي تعلمَ القانون في مصر أو المغرب أو بلدان أجنبية أخرى، لاتزال في ذاكرتهِ قوانينَ الدولِ التي تعلم فيها ...
وقد نجدُ اختلافَ التطبيقِ واضحاً لدى هيئةٍ قضائيةٍ واحدةٍ، فلكل منهُم رأي، كما أن تطبيقَ هذهِ القواعد يختلفُ في بعضِ الأحيان من هيئةٍ قضائيةٍ إلى أُخرى في المسألةِ القانونية ذاتها .. الأمرُ الذي أصبحَ معهُ من الصعبِ أحياناً تحديد اتجاهٍ واحدٍ لمسلكِ القضاء في مسالةٍ ذات طبيعةٍ واحدة .. وهذهِ الصعوبةُ إنعكست أيضاً عندَ المحامين والمتخاصمين، فلا يُعرَفُ مصير القضيةِ مُسبقاً، خاصةً تلكَ التي يكونُ الفصلُ فيها مَبنياً على تطبيقِ القواعد القانونية وكيفية فهمِها وتفسيرها ..
إن بناءَ القاعدةِ القانونية، وبالتالي التشريع عموماً يجبُ أن يكونَ مُحكماً منذُ البدايةِ، حتى يقطع قول كل خطيب، فوضع التشريع اليوم ثم إجراءُ تعديلٍ عليه في اليوم التالي، أو طلبُ تفسيره من جهةٍ مختصةٍ بالتفسيرِ يدل على عدمِ الوضوح المُسبق للقاعدةِ القانونيةِ، وعلى الصياغة غير الدقيقةٍ لها، ولا نقصدُ في دقةِ الصياغةِ أن يقومَ بنظمِ القاعدةِ القانونيةِ سيبَويه، أو أن تكونَ على نحوِ ألفية ابن مالك، إنما يجبُ أن تكونَ مفهومة وواضحة لكلِ منْ يَحتكِمُ إليها، لا تقبلُ تأويلاً أو تفسيراً غيرَ الذي أُريدَ بوضعِها، فبساطةُ الكلماتِ وسلاسةُ نظمها لا يَعيبُ التشريعَ، بل هي مِن مُستلزماتِ الصياغةِ الصحيحة، وهو أمرٌ قامت بتطبيقهِ بَعضُ الدولِ العربية في تشريعاتها، شَهدت تطوراَ مُذهلاَ في جميعِ مناحي الحياةِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والسياسية كدولة الإماراتِ، فقانون العقوبات لديها - لِمنْ يقرأهُ - يُخاطبُ الشَخصَ البسيط العادي، واضحٌ لا لُبس فيهِ، كذلك الأَمرُ في باقي التشريعاتِ الاقتصاديةِ والإداريةِ، فهي سَهلةٌ مُنضبطةٌ ومُحكمة، ويتمُ الاحتكامُ إليها في تعاملاتٍ تجاريةٍ وماليةٍ ضخمة تقدرُ قيمتها بالمليارات ..
وإذا كان من سماتِ التشريعات التطور، فإن من سماتها أيضا الثبات والاستقرار، سواء في التعديلِ أو التفسيرِ أو التطبيقِ، بحيث نَعرفُ الحكمَ في المسالةِ من لحظتها الأولى، فلا جدالَ ولا اجتهادَ عند التطبيقِ، صياغة محكمة شاملة سهلة واضحة ومُفسرة، نابعة من البيئةِ التي تَحكُمها، ليست غريبةً عن أهلِها ولا عمن يَحتكِمُ إليها ..
إن ستقرار التشريعاتِ إاستقرارٌ للمعاملاتِ وحافز للإستثمار، فلابد من ثباتِ السياساتِ سواء الاقتصادية أو الاجتماعية، ولا يكونُ هذا الثباتُ والاستقرارُ إلا بتشريعاتٍ ثابتةٍ واضحةٍ منذُ نشأتها الأولى، لا تقبلُ تأويلاً أو تفسيراُ، يَفهمُا جَميعُ أفراد المجتمعِ، ليست محلاً للتعديلِ أو التفسيرِ بقدومِ وزيرٍ أو مديرٍ مؤسسةٍ وذهاب آخر، في هذهِ الحالة فقط يطمئنُ المستثمر وكل مَن يُقيمُ على إقليمِ الدولةِ أو يتعاملُ معها، وتكونُ معالم الطريقِ واضحةً لديه ،،،
حالةُ التشريعاتِ التي نَعيشها وطريقةُ إنشائِها وصياغتِها وتعديلها يُعاني منها الكثير، وقد استشعرتها الحكومةُ فوَضَعت مُدونةَ حوكمةِ السياساتِ والأدواتِ التشريعةِ، التي قد تكون أساساً لضبط عملية التشريعِ بجميعِ مستوياتهِ وإصدارِ القراراتِ المؤثرة على جميعِ القطاعاتِ في الدولة، خطوةٌ للأمامِ وفي الاتجاهِ الصحيح، إذا ما أوكل أمرُ تطبيق هذه المدونة إلى الكفاءات التي تُطبقها بالشكلِ الصحيحِ وتلتزمُ بها، فإذا عُهدَ بها إلى نفسِ الأشخاص، فكأننا ندورُ حولَ أنفسنا مِراراً وتكراراً حتى تُصيبَنا الدوخةُ، ثم لا نَجِدُ أنفسنا إلا وقد سقطنا على الأرض ..