هيثم الطرمان ...
أمير شارع العشاق و أيقونة السوق ....
في منتصف الثمانينات كنّا نسكن شقةً مستأجرة في بناية يملكها أبو ابراهيم النوباني رحمه الله حين أتانا جيرانٌ جدد ؛ عودة الطرمان ابو هيثم و عائلته ، كان تاجراً ميسور الحال من نفس عشيرتنا الأزايدة ، كان ما يهمنا أنا و اخي بلال إن كان عنده أولاد من أعمارنا لنجد رفيقاً للعب اذ كنّا نسكن في أطراف حارة الازايدة بعيدين قليلاً عن ساحات اللعب ، كان هيثم الابن الأكبر لجارنا الجديد في عمر اخي بلال و يكبرني بعام ، توافقنا سريعاً و أحببناه .
ما لبث هيثم سنتين في رفقتنا في جو الطفولة ثم نزل إلى السوق ، في دكان أبيه في شارع العشاق بدأ هيثم معركته و لم يبلغ الحلم بعد ، تعلم التجارة سريعاً و تعلم المحبة أسرع ، ذلك الرجل الصغير ذو الأثني عشر ربيعاً كسب قلوب رواد السوق جميعاً ، يجلس خلف المكتب الخشبي يبيع هذا ( بكيت ) مارلبورو و يُجري مكالمةً لذلك المغترب المصري و يصرّف العملة لتلك العجوز اللتي تنوي اداء الحج ، ثم يقوم ليضع الزينة على سيارة المرسيدس ( اللف ) اللتي استعارها عريس من صديق والده لتتقدم ( الفاردة ) ، كانت الدكان تقدم كل هذه الخدمات ( الاتصالات و تصريف العملة و تزيين سيارات الاعراس و بيع الدخان و غيرها الكثير ) و كان هيثم يقدمها بنفسه بحرفية رجل في الأربعين و بطيبة قلب الطفل و بالكاد يُبدي أبوهُ الرضى ظانّاً انه بذلك يشجعه على بذل المزيد .
كان هيثم في الدكان و نحن نلعب كرة القدم في ملعب مدرسة عماد الدين ، كان في الدكان و نحن في رحلة المدرسة الى العقبة ، كان هناك و نحن في عطلتنا الصيفية ، بقي هناك و اصبح رجلاً و نحن ما زلنا نتنعم في طفولتنا .
بعد بضع سنين صار هيثم أمير شارع العشاق ، يتفق الجميع على محبته الأزيدي و الحميدي ، أهل المخيم و مسيحيو المدينة ، أهل الحي الشرقي و حنينا ، القادمون من نتل و منجا و العابرون من العجارمة ، البلقاوي و العزيزي ، لم يكن أحدٌ يبغضه فقد كان رجلاً بقلب طفل .
صعق الخبر أهل السوق ؛ هيثم مصاب بقصور شديد في الكلى ، كان هيثم في العشرينات وقتها ، منذ ذلك الحين ما زال هيثم زائراً دائماً للمستشفيات و وحدات غسيل الكلى و تتأرجح صحته بين المرض الشديد و التحسن الطفيف ، إن لم يكن مرضه مُقعِداً يكون في السوق .
كان هيثم راضياً بابتلائه و لم تتغير نفسه الطيبة و روحه المرحة ، ذات يوم و بينما نحن في طريقنا الى عمان و كنت أقود السيارة و هو جالس في المقعد الأمامي ، كنت متهوراً في قيادتي و اتجاوز السيارات عن الشمال و عن اليمين و هيثم يتململ من تهوري و لما لم ارتدع قال لي ( صف عاليمين نزلني ، يا رجل خاف الله بأهل مادبا اللي حزنانين علي أموت مريض كلى تروح تفاجئهم تموتني بحادث سير ) ، ضحكنا كثيراً و تمهلت قليلاً .
بعد أن تنخّل جسمه من أثر انابيب غسيل الكلى و اختفت شرايينه الصالحة لاستقبال تلك الأنابيب بعد ما يقرب العشرين سنة من الغسيل و بعد مضاعفات لا أدري سببها قام الأطباء ببتر ساقه قبل أسابيع .
زرته في بيته مرتين ثم شرّفني بزيارة الى المزرعة قبل يومين ، ما زال قلب الطفل ينبض في الجسد المريض و ما زال هيثم يُحسن الفرح و إدخال السرور إلى القلوب ، يضحك ملء قلبه و يمازحنا ، أيّ رجل انت يا هيثم ! طفولة محترقة في السوق و شباب بين وحدات غسيل الكلى و غرف العمليات و ما زلت تشع طيبة و إيجابية !
يا ربّ اشفِ هيثم شفاءً لا يغادر سقماً