تحمست سلوى البنا، الروائية الأردنية ومديرة «منار برس» لعرض ميشيل النمري إيفاد الصحفي المبتدئ (كاتب هذه السطور) الذي لم يكن قد جاوز الثلاثة والعشرين حولاً، في أول مهمة صحفية له خارج البلاد (لبنان)، لكنها في الحقيقة لم تكن «خارج البلاد»، فالحدود بين سوريا ولبنان، كان بإمكان أي كان، اجتيازها، نظامياً أو من دون أوراقٍ ثبوتية ... كان سائق السرفيس الشهير «أبو صالح» العامل على خط دمشق – بيروت، مدججاً بالهويات والأوراق الثبوتية، وكانت عملية «تلبيق» هوية مناسبة لصورتك وسنك، لا تستغرق منه أكثر من خمس دقائق، فهو إلى جانب هذه الهويات «المضروبة»، كان مدججاً بـ»كروزات» الدخان وعلب المحارم و»ربطات» الخبز اللبناني، يوزعها على ضفتي الحدود، لكل حسب رتبته ونفوذه.
كانت دمشق، تحتضن الدورة الرابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني- دورة الشهيد هواري بو مدين، وهي أول دورة للمجلس تعقد بعد زيارة السادات لإسرائيل وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد، وقد التأمت في ذروة التقارب العراقي – السوري (ميثاق العمل القومي) الذي استبشر الفلسطينيون به خيراً، قبل أن يتنبهوا إلى أن أولى خطوات هذا العمل المشترك، وربما أول أهدافه، إحكام قبضة البلدين على منظمة التحرير الفلسطينية، وتحجيم القرار الوطني المستقل للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
وكأي رب عمل، يسعى في تعظيم المكاسب، مقابل أي استثمار حتى وإن كان بحجم بضعة مئات من الدولارات، طلبت إلي طيبة الذكر سلوى البنا، أن أجري على هامش تغطية المجلس الوطني، سلسلة حوارات مع شخصيات سورية، وذكرت على نحو خاص، الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة السورية المخضرمة، والتي ستصبح فيما بعد، نائباً لرئيس الجمهورية، وكان لها ما أرادت، على أنني شعرت بارتياح أكبر، للفرصة التي أتيحت لي للتعرف شخصياً في مكتب الوزيرة على الروائي الكبير حنا مينة.
دخل الرئيس الراحل حافظ الأسد، وبرفقته ياسر عرفات، وسط تصفيق الحضور وهتافاتهم، لكن هذا المشهد الاحتفالي، سرعان ما سيتبدد، فقد تحدث الأسد عن فلسطين بوصفها جنوب سوريا، في دلالة على عمق الالتزام السوري بالقضية الفلسطينية، ليرد عليه ياسر عرفات، بأن سوريا هي شمال فلسطين، في دلالة على مركزية فلسطين وقضيتها وقياداتها، قبل أن تقوم بعض النسوة من خارج المجلس، بإطلاق الصيحات المطالبة بالإفراج عن أبنائهن المعتقلين في السجون السورية.
كانت أجواء المجلس مشحونة جداً، فوزيرا الخارجية السوري عبد الحليم خدام والعراقي طارق عزيز، كانا قد أنشآ «غرفة عمليات» مشتركة في فندق الميريديان الذي شهد افتتاح دورة المجلس، قبل أن يواصل أعماله في مقر الاتحاد العمالي المقابل للفندق ... والهدف السيطرة على مؤسسات منظمة التحرير القيادية، أو أقله، الحصول على «الثلث المعطل» المكبل لحركة عرفات الحساس للغاية من التدخلات العربية في الشؤون الفلسطينية الداخلية.
قلب ياسر عرفات الطاولة على «غرفة العمليات المشتركة، خدام – عزيز»، تسلل تحت جنح الظلام إلى جنوب لبنان، وأوعز للمدفعية الفلسطينية بدك المستوطنات، واشتعلت جبهة الجنوب، قبل ان يخرج علينا صلاح خلف (أبو إياد) بخطاب مؤثر عن الهوية والاستقلالية ورفض التدخلات، وقبل أن يعلن عرفات «بقاء القديم على قدمه»، بمعنى أن الوقت من حرب ودم، ولا يسمح بكل هذا «الجدل البيزنطي» حول تركيبة الهيئات القيادية، وسط تصفيق حاد من أعضاء المؤتمر.
هناك، سألتقي لأول مرة بالرفيق فائق ورّاد (أبو محمد)، ولطالما كنت راغباً في لقائه، وأنا الذي استمعت لعشرات القصص عن تجربته في تأسيس عصبة التحرر والحزب الشيوعي الأردني وتجربة الجبهة الوطنية وجريدة «الجبهة» وانتخابات 1956 ودخوله البرلمان نائباً عن الحزب، إلى جانب يعقوب زيادين وعبد القادر الصالح، ثم تجربة حكومة المرحوم سليمان النابلسي، وبعد ذلك سنوات الاعتقال، ولاحقاً تشكيل قوات الأنصار والانخراط في عضوية المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، والأهم، خلافة القائد الشيوعي البارز فؤاد نصار بعد رحيله في العام 1976.
بدا الرجل شديد البساطة والتواضع، أقرب إلى شخصية الفلاح الفلسطيني الذي غادر قريته للتو ... انفردت به في زاوية في بهو الفندق، وطلبت إليه حواراً مطولاً عن مواقف الحزب وأطروحاته، في ضوء المستجدات العاصفة التي أعقبت خروج مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي ... رحب بالفكرة واستفاض بالحديث، وتركت «المسجل» مفتوحاً طوال الوقت، لم أكتب حرفاً مما قال، فقد كان ذهني متسمراً على مضامين أقواله، وكنت أستغل استفاضته في الإجابة على أسئلتي لأتهيأ لتحضير المزيد منها.
استرجع الرجل في حديثه مواقف الحزب التقليدية، وكان واضحاً أنه يقود تياراً «محافظاً» داخل الحزب، وقد جاءت مواقفه نسخة غير مزيدة وغير منقحة عن مواقف الاتحاد السوفياتي، شدد على أهمية القرارين الأمميين، 242 و338، وقد كانا مرذولين في الأوساط الفلسطينية، والقبول بهما، يعادل التفريط وربما الخيانة، ولم يبد حماسة للكفاح المسلح الفلسطيني، وهو الذي مثل «قوات الأنصار» التي شكلها الحزب في العام 1970 لتصبح جزءاً من منظمة التحرير قبل إعلان وفاتها ولم تكمل البضعة أشهر من عمرها القصير ... أي بمعنى آخر، جدّف الرجل بعكس التيار السائد في تلك الأزمنة، وبالأخص، في مناخات الطعنة النجلاء التي وجهها أنور السادات للعمل الفلسطيني والقومي بزيارته إسرائيل وإبرامه سلاماً منفرداً معها.
لم يسألني «أبو محمد» عن «تصوير» المقابلة، فقد كان زاهداً بالصورة والإعلام، وكانت الكاميرا التي أحملها خربة في كل شيء إلا «الفلاش»، وهو الذي سينقذني من لسان السيد إبراهيم شكري، المعارض المصري المعروف لأنور السادات، والذي حلّ ضيفاً على المجلس ... إذ بخلاف ورّاد، أصر شكري على أن أبداٌ المقابلة بالتقاط عدد وافر من الصور، بوضعيات مختلفة، ثم نبدأ التسجيل ... لم أبق من جهدي جهداً، في تشغيل «الفلاش»، ولقد نجحت في إيهامه بأنني التقطت له عشرات الصور، وشكراً لتلك الأزمنة التي لم يكن «الديجيتال» فيها قد اخترع، وكان يتعين إخضاع الصور الملتقطة لعمليات «تظهير» و»تحميض» في معامل خاصة، وإلا لافتضح أمري مع المعارض المصري.
أخبرت ميشيل وسلوى، وجورج ناصيف الذي كان التحق من توه بالعمل، بما عدت به من حصيلة، تقارير ومقابلات، سلوى اهتمت بالجانب الإخباري والمقابلة مع الدكتورة العطار، أما جورج ناصيف فقد التقط بعقله السياسي اليقظ، المقابلة مع ورّاد، ورأى فيها مشروع «قنبلة»، وعرض على سلوى نشرها في صحفية السفير اللبنانية، حيث ستجد الصدى المناسب، قبلت صاحبة الدار بالمقترح، الذي لن يدر عليها دخلاً... كان جورج ناصيف قيادياً في منظمة العمل الشيوعي اللبناني بقيادة محسن إبراهيم وفواز طرابلسي، وكان مثقفاً موسوعياً وكاتباً مرموقاً، ملماً بالخريطة الفكرية والسياسية الفلسطينية واللبنانية والعربية، شافاه الله وعافاه.
عدت إلى المنزل أعكف على تفريغ المقابلة، حيث عقدت الصدمة لساني حين وجدت أن المسجلة توقفت عن العمل بعد أول خمس دقائق من الحديث، فعملت جاهداً على استذكار كل كلمة وحرف مما قاله «أبو محمد»، وقد أسعفتني تجربتي اللصيقة بالحزب والعمل الفلسطيني، أن أنقل بأمانة كل ما قال تقريباً، ولم أبح بهذا السر لأحد إلا بعد نشر المقابلة وردود الأفعال عليها، بعدة أشهر.
أثار نشر المقابلة في السفير موجة واسعة من الانتقادات للحزب الشيوعي في أوساط الحركة الوطنية الفلسطينية وحتى من قبل اليساريين اللبنانيين، وقد تواردت إلى الصحيفة البيروتية، العديد من المقالات التي ترد وتفند أقوال وراد ... ولقد بلغني بأن الحزب بصدد إصدار بيان تكذيب لفحوى المقابلة، لكنني هددت بنشر المزيد منها، مما تحتفظ به «مسجلتي» ... بدت الحيرة على الحزب بين مصدق ومكذب، وأحسب أنني كنت أكثر شخصاً مكروهاً من قبلهم في تلك الفترة.
جاءني عبد الفتاح غانم، العضو القيادي في جبهة التحرير الفلسطينية إلى منزلي في «أبو شاكر الفوقا»، ليستوضح ما جرى، وطلب نسخة من التسجيل، رفضت طلبه، واكتفيت بإسماعه الدقائق الخمس الأولى المسجلة، فاقتنع بأنني احتفظ بنسخة مسجلة عن الحديث، وأبلغ الحزب بذلك، ولم يصدر عنه ما يشي بأن المقابلة مفبركة أو غير دقيقة، سيما وأنني كنت حريصاً على كتابة كل كلمة وحرف بدقة متناهية، وبما ينسجم مع المواقف الأساسية للحزب، الذي كان بدوره يشهد سجالاً داخلياً، شارف حدود الانقسام، حول قضايا الحل النهائي والكفاح المسلح وتقرير المصير وغيرها من عناوين سجالية.
ستنتشر المقابلة على نطاق واسع، وسيصور منها مئات النسخ، وستدخل مضامينها إلى حلبة الجدل الداخلي في أوساط الحزب، والذي سينتهي بعد عام أو أكثر قليلاً إلى تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني في 12 شباط 1982، بعد أن ظل الشيوعيون الفلسطينيون يعملون لسنوات، تحت اسم «التنظيم الشيوعي الفلسطيني في الضفة الغربية»، وهو ذاته الحزب الذي سيحمل بعد عشر سنوات تقريباً اسم «حزب الشعب الفلسطيني» برئاسة الأخ بسام الصالحي، وكمكون من مكونات منظمة التحرير الفلسطينية.
لم يكن ميشيل النمري يعرف الهدوء أو السكينة، لم يكن يتوقف عن إطلاق المبادرات أو الانخراط فيها، فقد جاءني بعد عدة أشهر، ليخبرني أنه بصدد إصدار مجلة أسبوعية جديدة، ستحمل اسم «الموقف العربي»، وان «منار برس» ستكون مقراً مؤقتاً لها، وليطلب إلي الانخراط في هذا العمل، وهذا ما كان ... لم أكن حينها أعرف شيئاً عن كواليس هذا العالم الخلفية، فقد علمت لاحقاً أن صاحب المجلة ورئيس تحريرها معارض عراقي تربطه صلات قوية مع العقيد الليبي معمر القذافي، وبعد شهور من التحضير والاستعدادات، صدر العدد الأول منها في بيروت، بعنوان استفزازي «عاشوراء ساخن ينتظر بغداد»، وتضمن أول «تحليل سياسي» يحمل توقيعي، وكان بعنوان «معاهدة الصداقة السورية – السوفياتية... الدلالات والأبعاد».
تنويه واعتذار
ورد خطأً في المقال السابق، أنني بدأت العمل مع ميشيل النمري في منار برس في مطلع العام 1980، والأصح أن ذلك حصل قبل هذا التاريخ بعام واحد.
الدستور