في هذه الحياة؛ عمر ضاع تغريبة موحشة بين ما يرغب قلبي وما يرغب عنه. ودفء الروح، فقدته زمنا في بلاد تموت من الشمس عصافيرها وتذبل أزهارها. وعلى الرغم أن ثمة حميمية من نوع خاص بيني وبين عمان، إلا أن شيئا يشبه الضباب قام بيني وبينها بالأمس، قد يكون زعلا من نوع خاص أيضا. عندما هاتفني أخي تامر ليطمئن على صحة (تاليا)، وقال: (مَش عارف شو أقلّك لارا! كان نفسي أتصل أقلّك تطلعيش عالمستشفى لحالك هيني جاي!)
سلمي لي على عمان مجددا يا صديقتي وأخبريها بأن جملة أخي تلك زمجرت في أذني حتى كادت تنزف! سلميلي عليها وأخبريها أنني زعلانة منها؛ فلولا قيظ الغربة؛ لكان طعم العيش ما يزال في قلبي كما كان يوم بدأت رحلتي في هذي الحياة برفقة إخوتي! عندما كان العالم لا يتجاوز أفق حاكورة دار سيدي العتيقة، عندما كنا نزرع الأحلام وننثر البهجة.
سلمي لي على عمان، وأخبري (كبارها وكراسيها ورماح القنا الي تعكزت فيها)، بأنهم لم يتركوا لنا إلا حرية التعب أو الرحيل!! أخبريهم بأن الغربة جرح، لكن العودة قد تكون ملحا يزيد قرح الجرح ألما! أخبريهم أن الغربة؛ ليست غربة وطن فحسب، الغربة؛ ابتدأت أول الحكاية عندما غادرت أحلامنا وطنها. عندما خاننا الأمل يوم اجتهدنا، واعترانا اليأس يوم أخفقنا. أخبريهم أن الغربة؛ جسد امرأة افترشت الرصيف، وزوج طواه الموت وخلف بين ذراعيها بضعة منه. أخبريهم أن الغربة؛ عجوز ليس فيه إلا بقايا عمر، أراق ماء وجهه على أعتاب المراكز الخيرية. وهي عجز الجياع عن فتات ولائم المترفين. أخبريهم أن الغربة هناك؛ حيث لا تبصر العيون أشعة الشمس إلا من كوة صغيرة، حائرة بياض النهار وسواد الليل. وهناك؛ حيث كانت صغائر الحياة مخبوءة وظهرت بغتة لتحيط بمجدها. وهي هناك أيضا، عندما أضحى شذوذ الإنسانية كتراب ينثره سفيه على رأس عالم جليل على مرأى من صغار القوم وكبارهم. الغربة؛ عندما يصبح الفقراء شطارا وعيارين، والأغنياء مزورين ومداهنين وسماسرة، يختلسون الثروات ويغتالون الحياة. ولا تنسي أن تخبريهم أيضا أن في الفوضى غربة وفي الفساد غربة وفي البلطجة غربة وفي البطالة غربة.
سلمي لي على عمان يا صديقتي وأخبريها أن الغربة؛ ألف عام من الحنين؛ حنين يكوي الروح ومثلها ألف من رياح الشوق؛ رياح عصفها لا يهدأ، ودموع سخينة سقطت في قلوب ذاقت حر الفراق، و أرواح طحنها ألم الغياب طحن الرحى.. سلمي لي عليها وقولي لها في حال (زعلي طول أنا وإياها)، أنها ستبقى في القلب، بل هي القلب، ومهما (البعد طال)، ستبقى هي نافذتي الوحيدة التي سأطل منها في يوم ما على الأبد وما وراءه!