لكل امة اخطار تحدق بها، و مخاوف تضغط على وجدان افرادها، والأمر ليس محصورا بعالمنا العربي ولا بوطننا الاردني، انها تنسحب على الاوضاع العالمية برمتها في اوروبا وامريكا، وامريكا اللاتينية، فاليوم مثلا باتت الهجرة من اكثر ما يؤرق الاوروبيين، و بالاخص هجرة المسلمين، سواء كلاجئين هاربين من مناطق الصراع والحروب الاهلية في سوريا و العراق ، او من مهاجرين اقتصاديين هاربين من تردي الاوضاع الاقتصادية في بلدانهم من دول شمال افريقيا و جنوب الصحراء الكبرى ،هذه الهجرة المتنامية اصبحت فزاعة تثير مخاوف الاوساط الشعبية و الفقراء و ابناء الطبقات العاملة في اغلب بلدان اوروبا كايطاليا ، المانيا ، هنجاريا ، بولندا ، سويسرا ، و غيرها مخاوف تستغلها الاحزاب القومية اليمينية المتشددة ، و التي كانت مهمشة و منبوذة في السابق ، في الدعايا ضد المهاجرين المسلمين بحجة ان هؤلاء المهاجرين يستهدفون القيم الاوروبية المسيحية ، و يرومون تحويل المجتمعات الاوروبية ، الى مجتمعات اسلامية متشددة ، معادية للديمقراطية و مناصرة للارهاب ، تستهدف تقويض اسس الحضارة الغربية ، هذا الاسلوب من الترويج السياسي لاحزاب اليمين القومي المتطرف يدعى بالشعبوية ، و هي نهج يدعي الحفاظ على مصالح الشعب و قيمه الحضارية و شخصيته و مكاسبه من خطر الاعداء الافتراضيين ، سواء كانوا اعداء خارجيين كما هو الحال في اقوام المهاجرين الاجانب و بالاخص المسلمين ، او الاعداء الداخليين، و الذي يقصد بهم : النخب الحاكمة، من مناصري الاندماج الحضاري، ، و الليبراليين ، و دعاة الوحدة الاوروبية.
و مع تزايد اعداد المهاجرين و اللاجئين الى اوروبا و تفاقم العديد من الازمات الاقتصادية يتنامى نجاح الاحزاب اليمينية المتطرفة التي تتبنى الخطاب الشعبوي الذي يخاطب عواطف و مخاوف الاوروبيين ، ففي الايام القليلة الماضية فقط ، اكتسح الرئيس الشعبوي لحزب فيديسز الوطني اليميني المتطرف المعادي للهجرة و المسلمين خصوصا و للاتحاد الاوروبي فكتور اوربان الانتخابات الهنغارية ، للمرة الثالثة على التوالي ، و الذي اقام سياجا حدوديا لمنع تسلل اللاجئين لبلاده ، بينما انهارت امامه شعبية الاحزاب اليسارية و الليبرالية ، كما تمكنت الشعبوية في بريطانيا قبل ذلكم بالنجاح باخراج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ، و حققت شخصيات و احزاب شعبوية في المانيا و فرنسا و النمسا و ايطاليا و سويسرا و غيرها نتائج ملتفة في الانتخابات ، اذ اصبحت هذه الظاهرة شائعة في اوروبا ، اي الخطاب و الممارسات السياسية الذي تحرض الناس على التصويت للمتطرف ، حتى باتت الاحزاب الرئيسية التاريخية من ليبراليين و اشتراكيين تخسر ناخبيها امام صعود احزاب اليمين القومي الشعبوي ، كرد فعل على عواقب الازمات الاقتصادية ، و اتهام الوحدة الاوروبية و العولمة و سياسات الاندماج الحضاري بانها سبب مباشر لهذه الازمات الاقتصادية لكونها بزعمهم تعرض الهويات السياسية و الثقافية المميزة لشعوب اوروبا للخطر ، بينما نجحت بامريكا في ايصال ترامب الى رئاسة امريكا ، و في تركيا الى احكام سيطرة اردوغان على مناحي الدولة التركية.
مع ذلك ، لا تتعدى الشعبوية في ممارساتها حدود الخطاب و الدعايا الاتهامية ، و المواقف الانية الانفعالية و ردود الافعال الارتجالية العنترية ، و الصوت العالي ، فهي نمط من الخطاب السياسي الذي يتوجه للناس بصورة المعني بكل اخلاص و تفاني بهمومهم العادية ، و مخاوفهم اليومية ، رافعا شعارات مبسطة، و طرح يتماهى مع لغة رجل الشارع ، يشيطن النخب الحاكمة و يرفض ممارساتها ، و يطعن بنواياها ، و يحاول تقويض حججها ، و سحب البساط من تحت اقدامها مستغلا فشل سياساتها امام الازمات الاقتصادية ، و مركزا على استغلال حالة اهتزاز ثقة الناس بهذه السياسات و نتائجها المخيبة لامالهم ، و تراجع المشاركة الانتخابية للناخبين الذين عجزت الاحزاب السياسية عن تلبية طموحاتهم ، و تحقيق الوعود الوردية التي طالما منتهم بها .
هذا الاسلوب الخطابي المسمى بالشعبوية لم يعد حصرا على اليمين المتطرف في اوروبا و الامريكتين بعد ان حقق نتائج حيثما وجدت ، لقد اصبح مطية للزعماء الشعبوين من رؤساء دول و احزاب و برلمانيين ، و ناشطين سياسيين و اعلاميين ، غير انه يظهر في الاردن في بعض النماذج لنواب في البرلمان يفتعلون المشادات للفت الانظار ، و يطلقون خطاب شعبوي يداعب العاطفة الشعبية بما يتناغم مع مخاوف الناس و الظهور بمظهر الزعيم الشعبوي كلما سمحت الفرصة ، كما يظهر لدى بعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي يبثون فيه نوع خطاب مريح وجذاب للجمهور يتماهى مع مخاوفهم و شكوكهم و مزاجهم الناقم على النخب السياسية، فقد باتت الساحة السياسية في الاردن بيئة خصبة لنمو و ازدهار الشعبوية ، التي ظهرت بعض اعراضها ، على الجسد السياسي الاردني ، نظرا لخيبة الامل العامة من السياسات الاقتصادية ، و لاعتلال الحياة الديمقراطية ، من عزوف عن الاحزاب و ارتفاع نسبة الامتناع عن المشاركة الانتخابية خلال السنوات الاخيرة ، و لوجود عيوب اساسية في اللعبة السياسية ، حيث تكاد تنعدم حالة الصراع السياسي بين الحكومة و المعارضة التي يبدو و كانها بلا وجود حقيقي على الارض ، اضف الى ذلك حالة الحرمان و التهميش و الفقر ، الذي يتفاقم مع السياسات الاقتصادية التي تخذها الحكومة تجاوبا مع املاءات صندوق النقد الدولي من رفع الدعم عن السلع الاساسية ، و زيادة الضرائب و الفشل في احداث التنمية و استدامتها و سوء الادارة الحكومية ، و الفساد و غيرها.
و في ظل تنامي الشعبوية المحلية الطامحة التي تدعي وقوفها بوجه مؤامرات مزعومة على الشعب من قبل النخبة، و احتمالية تغذيتها لمشاعر سلبية و عدائية و غير صحية ، بعيدا عن اعطاء اي حلول عملية للمأزق السياسي و الاقتصادي ، بظل عدم وجود لعبة سياسية حقيقية تتصارع فيها الافكار السياسية و تتنازع بشكل معقول و بناء بين الحكومة و المعارضة السياسية ، بدلا من الشعارات العاطفية الشعبوية ، التي يتبناها الان اشخاص و في المستقبل احزاب سياسية مهمشة ، و يخضم مزاج عام عازف عن الاجزاب ، و ضعف الاخيرة لدرجة الوهن الحاد فيتوقع ان تتمظهر الشعبوية و تبرز الى حيز الوجود كحالة نجومية دائمة و متنامية ، من شانها ارباك النظام ، و تقويض ما تبقى من اثار الحياة الحزبية المهلهلة اصلا ، و بالتالي القضاء على براعم الديمقراطية و تبديد امال الحالمين بها ، و الغاءها كفكرة من اذهان الناس ، و ترسيخ جذور السلطوية التي هي سبب مباشر لكل الماسي السياسية و الاجتماعية في عالمنا العربي ، كما سيسهم ذلك في تعميق المشاكل الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية ، و ضياع مزيد من الموارد الهامة ، و الفرص و الوقت الثمين ، عبر تفرد فئة قليلة العدد والخبرة بعملية اتخاذ القرار .