في فتاة غضبت السّماء لها (١)
سيف الله حسين الرواشدة
10-04-2018 01:37 PM
فكرت في عشرات الطّرق و الأساليب لكتابة هذه المقالة، كنت سأبدأ بقصّة مثلاً لكنّني خفت ممّا قد يزيده التّرميز و التّشبيه من غموض و أنا هنا أطلب الإيضاح و الإفصاح ما استطعت لذلك سبيلاً، أمّا ما شدّني للموضوع هو تعليق فتاة مسلمة في يوم وسم بعقاب المسلمين بأنّ الله قد غضب لهم في ذلك الْيَوْمَ فحماهم بالأعاصير و الرّيح و المطر، صراحةً عجبت كيف اهتدت هي لهذه النّتيجة و سألت أنا نفسي عن حال بقيّة المسلمين التي كانت سماؤهم صافية ألم يغضب الله لهم؟! و لمّا سألت بعض النّاس لماذا قد يظنّ أحدنا أنّ السّماء قد تحول بينه و بين السّوء دون غيره مع أنّ الأنبياء أنفسهم قد أخذوا من العنة نصيبهم قيل لي لأنّهم متدينون و كذلك الفتاة فسّرت نصرة السّماء لها بعدم تنازلها عن شبرٍ واحدٍ من إيمانها و رفعها لراية الإسلام عالياً، فما هو هذا التّدين إذن؟!
بدايةً لابدّ أن نذكّر أنّ الدّين هو علويّ المصدر و مقدّس و متعالي (أي إلهي) أن التّديّن هو تطبيق لفهم الإنسان للدّين أي أنّه سلوك و ليس قول أو تصوّر و بهذا يكون التّديّن هو ترجمة البشريّة لما هو متعالي حسب الفهم الفردي المتفاوت على الأقل بداية، الذي مع تقادم التّاريخ و طبيعة الإنسان في الحنين للماضي و تقديس خبر السّلف و فعله قد يتحوّل التّديّن لدين داخل الدّين ينبثق منه تديّن جديد يكوّن طبقة أخرى للجانب الفعلي من الإيمان و تنزيل من المستوى المتعالي للتّطبيق الفعلي مع الاحتفاظ بالقدسيّة لما كان في محاولة لفهم المقدّس العلوي ليمسي هو علويٌّ بدوره يحتاج تنزيلاً و ترجمة بشريّة جديدة
و طبقات الفهم البشريّة هذه تحوّل فهمنا (تأويلنا) إلى هويّة قد تختلف سماتها عن سمات الدّين نفسه، فليس هناك دين يسلم بتشارك مع دينٍ آخر بالحقيقة المطلقة، أي أنّ الدّين في جوهره يدّعي احتكار الحقيقة، بعكس التّدين الذي يقبل تعدد المذاهب و الفرق داخل الدّين نفسه بدايةً في طبقته الأولى إلى أنّه بفضل التّراكم التّاريخي يمسي هو دينًا يحتكر الحقيقة ينبثق منه تديّن جديد بهوية فرعيّة جديدة قد تُخاصم الهويّة الأم. و أيضًا تختلف طبيعة الإيمان القائمة على الاختيار و الحريّة عن التّديّن الذي كما أسلفنا تعبّر سماته عن الهوية التي تقصي من يخالفها و تتكرر على نفسها إذا أحسّت خطرًا و تظن في نفسها خيرًا لا يمتلكه غيرها و تجبر كل من ينطوي تحتها على الإنصياع لمقاييسها حتى تناسب و تتطابق مع هذه الهويّة الجامعة كحال الهويّة القوميّة أو الوطنيّة لكنّ الهويّة الدّينيّة تختلف بأنّها تظنّ في نفسها تعالي المصدر و القدسيّة.
و لما سبق فالدين وضعٌ إلهي ثابت يتّصف بالنّجدة على مستوى أصوله، أمّا التّدين فهو كسبٌ إنساني متغيّر و متعدد يعبّر عن هويّة اختارت تقديم نفسها بواسطة لغة الدّين و مفرداته، تمتاز بكلّ خصائص الهويّات المجتمعيّة من تسيّس و أدلجة، ظهر نتائج تقادم التّفاسير الفرديّة المتفاوتة للدّين و أعطاها التّقادم قدسيّة الدّين نفسه و السّؤال هنا ما هي دواعي التّديّن النّفسية علو الانسان؟! و لا محيد من الإشارة هنا أنّ التّداعيات النّفسيّة للتّديّن متفاوتة لاختلاف النّاس و بيئاتهم و تجاربهم و سنذهب هنا للتّعميم مع إدراكنا لما يحتويه من مغالطات لا نمتلك إلا قبولها في مقامنا هذا. فعل التّديّن يمنح صاحبه شعور بالاعتلاء الأخلاقي على بقيّة النّاس يتفاوت حسبه مع النّاس من دائرة التّديّن و الدين بالاشتراك و الاختلاف، من الشّعور بالتّفوق الأخلاقي إلى الازدراء و التّرفع، أيضًا يمنح صاحبه ثقة بنصرٍ إلهي مدوٍ نظرًا لأنّه فرد قليل من الفرقة النّاجية ستفسّر الأحداث تبعًا له و ستكون الصّدمة عظيمة إذا لم يحصل، و سيمنح صاحبه الحقّ في محاسبة النّاس و الحكم عليهم و تقسيمهم لأنّه يظنّ فيما يمتلكه ترجمةً فعليّة صادقة لأوامر الله ، أي تجسيدًا عملي لما تريده السّماء فمن خالفه هو ضال يمتلك المتديّن عليه سلطة السّماء على عبيدها و اعتلاء اَهلها عليهم. دعني أضرب لك مثلاً للتّوضيح فقد تنظر المحجبة لغير المحجبة او من أحالتها الظّروف إلى لَبْس طاقية مثلاً ببعض الازدراء أو التّعالي و قد تفسر شرًا أخطأ الاولى و أصاب الثّانية بالعناية الإلهية للأولى والعقاب عن التّقصير للثّانية و كذلك ستنظر المنقبة للمحجبة. و من باب الإنصاف لا مناص من ذكر أنّ المجتمع يحاسب المتديّن تبعًا لما سبق أيضًا، اَي أنّه قد يغفر الزّلة للشّخص العادي و يستكبر صدورها من المتديّن لأنّه يمثّل المثال الأنصع و التّطبيق الأسطع و الأنقى للدّين بنظره فأمسى متعاليًا لا تقبل منه مذموم صفات البشر. ونهاية يبقى السؤال الأهم هل هناك تدين في الاسلام حقا؟! يتميّز الإسلام عن بقيّة الأديان في البنية بصفتين أوّلهما انّ المسافة فيه بين السّماوي و الأرضي شاسعة جدًا (أي أنّ الله خارج كلّ ما خلق) و ثانيًا انّ الإيمان لا يتوقّف بالاقرار النّفسي فقط، بل يلزمه العمل بموجبات هذا الإقرار لكماله، فالإيمان (ما وقر في القلب و صدقته الجوارح) و بهذا يكون الإيمان يقوم على الإشتباك بين ما هو سماوي المصدر و الإنسان الأرضي و هذا الإشتباك ضروري لوقوع الإيمان ، إذن لابدّ لكلّ مسلم من الخضوع لما سبق وجوبًا، فلماذا تجد بيننا متدينين و غير متدينين أو لنقل مسلمين يمتلكون قدرًا أكبر من الإسلام عن غيرهم؟! و اسمحوا الي أن يكون اجتهاد الإجابة لهذا السّؤال في المقالة القادمة ان شاء الله.
و الله دائمًا من وراء كلّ مقصد.