الحكم الرشيد وتأثيره الاقتصادي
د. عادل يعقوب الشمايله
10-04-2018 09:17 AM
دخل مفهوم الحكم الرشيد القاموس السياسي الاداري الاقتصادي في نهاية القرن العشرين. وحيث أنه واحد من اهم المنتجات ذات التأثير البالغ في حياة الشعوب فقد تبنته جميع الدول الديموقراطية المتحضرة واصبح أحد المظاهرالتي يترجم فيها التطبيق الاقتناع. ويعبر مفهوم الحكم الرشيد عن الطريقة التي تنتخب أو تتشكل بها الحكومة بسلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وعن سبل تداول السلطة هل هي بالتنافس الحزبي والانتخابات الحرة النزيهة أم بالتوارث، أم بالعنف أي الانقلابات أو الحروب الداخلية، وكذلك وسائل مراقبة وتدقيق افعال الحكومة وقراراتها وعن قدرة الحكومة على الاهتمام بمشاكل ومطالب المواطنين وفهمها وصنع السياسات العامة الكفيلة بالاستجابة لها وتطبيق تلك السياسات لا أن تبقى حبرا على ورق.
كما يعكس مفهوم الحكم الرشيد مدى احترام المواطنين والحكومة للمؤسسية والاحتكام للقانون. ويهدف الحكم الرشيد الى تمكين المواطنين من إدارة الحكم المحلي مباشرة والمشاركة في قرارات الحكومة المركزية من خلال ممثليهم المنتخبين، وان تكون كافة المناصب الحكومية متاحة للمواطنين دون احتكار من اي جهة، وان تتصف اعمال الحكومة بالنزاهة والشفافية واحترام الحقوق الانسانية والتنمية البشرية والاقتصادية والبيئة المستدامة والعدالة والخضوع للمساءلة والمحاسبة وان تنجز الحكومة اعمالها باقل كلفة ممكنة. لقد توصلت معظم الابحاث والدراسات التي اجراها علماء الاقتصاد على وجود درجة عالية من الارتباط ما بين معدلات النمو الاقتصادي ومستوى الحكم الرشيد، بما فيها الدراسة التي أعددتها وكانت دراسة مقارنة لعدة دول تمثل القارات بما فيه الاردن ونشرتها في مجلة:
International Research Journal of Finance and Economics, 2015
بعنوان: The Impact of Governance on Economic Growth, Income Inequality and Poverty: a Comparative Study.
تبنى البنك الدولي معايير الحكم الرشيد الستة ووضع لكل منها تفسيرا وشروطا ومقياسا موضوعيا وبدأ بجمع البيانات الاحصائية اللازمة من عدة مصادر مستخدما أفضل الطرق الاحصائية المقررة علميا لتدقيقها ومعالجتها وتبويبها. ولا يعتمد البنك الدولي على المعلومات التي تقدمها الحكومات لانها تفتقر للحيادية ولان الحكومات في الدول النامية تستخدمها لتضخيم إنجازاتها. اعتبارا من عام 1996 بدأ البنك الدولي بنشر البيانات عن قيم معايير الحكم الرشيد. البيانات المنشورة عن كل معيار تنحصر ما بين (-2.5 و + 2.5 ). الرقم + 2.5 يعني اعلى مستوى من تطبيق الحكم الرشيد، أما -2.5 فيعني عدم التطبيق وأن الدولة دولة فاشلة.
يظهر الرسم البياني المنشور أدناه، الارقام المنشورة عن الاردن خلال 11 سنة وقد أخذتها من مصدرها الاصلي وهو البنك الدولي. بناءا على الارقام، فإن موقع الاردن متدنٍ جدا على مقياس الحكم الرشيد. ومن الانصاف القول أن وضع الاردن ليس أسوأ من مواقع بقية الدول النامية عداك عن الدول الفاشلة. هذا القول يرضي الحكومة. ولكن هل يجب علينا ان نقارن وضعنا بالاسوأ؟ هل من المقبول أن يقارن الطالب الحاصل على علامة 20 في الامتحان نفسه مع الطالب الحاصل على صفر أو 10 ويقول أن علامتي جيده ، أم أن عليه أن يقارن علامته مع علامة 90 أو على الاقل مع علامة النجاح. ولذلك فإن المواطنين يعبرون في كل ساعة من نهارهم وليلهم عن ضجرهم ومعاناتهم. ولا تجد شخصا سافر الى دولة اوروبية أو امريكية، إلا ويعقد مقارنة ما بين الوضع في الاردن وما شاهده وخبره في تلك الدولة. أما الذين يعتقدون أن العالم يتكون من سوريا ومصر والعراق والصومال واليمن والسودان فإنهم سيُقَيمُون الوضع في الاردن على أنه ليس بالامكان افضل من الكائن وان عليهم فقط أن يحمدوا ويشكروا.
وعلى من يشكك في صدقية بيانات البنك الدولي أن يتذكر كيف تجري الانتخابات النيابية والبلدية وكيف يتم فرز الناجحين وما مستوى رضا الناس عنهم وعن الطريقة التي يتم فيها اختيار الوزراء والاعيان ورؤساء واعضاء مجالس إدارة الشركات الحكومية وهيئات تنظيم القطاعات والمفوضين والسفراء حيث أن معيارها الوحيد التوارث والنفوذ وتدني الكفاءه.
يبقى السؤال المهم: ما هي الاثار المترتبة على ضعف تطبيق مفاهيم الحكم الرشيد؟ الجواب يحتاج الى كتاب وليس مقال قصير. لذلك فإنني أجتزأ لايصال الفكرة فقط. من الاقوال المعروفة لدى الكثيرين أن رأس المال جبان. وبالتالي فان معظم المستثمرين يبتعدون عن الاستثمارات التي فيها مخاطرة حتى ولو كان ربحها عاليا. عندما تكون مرجعية الموظفين والعمال في بلد ما عشائرية وليس القانون والنظام فإن هذا يعد مخاطره بالنسبة للمواطن والمستثمر، عندما يكون الانطباع العام عن القوى العاملة في البلد أنها كسولة ومهملة فإن هذه مخاطره، عندما يكون مستوى التعليم والتدريب متدنيا فإن هذه مخاطرة، عندما يكون معروفا انتشار الغش والكذب فإن هذه مخاطرة، عندما يتأخر الفصل في اصدار القرارات في المحاكم فإن هذه مخاطره، عندما لا يكون مضمونا أن حكم المحكمة سيكون دائما مستندا الى القانون فإن هذه مخاطره، عندما يكون شائعا أن ماكنة الحكومة لا تحركها الا الواسطة والضغوط والرشوة فإن هذه مخاطره، عندما تتغير القوانين والانظمة باستمرار ودائما الى الاسواء فإن هذه مخاطره، عندما تُقرر الضرائب والرسوم الحكومية في سوق المزاد وليس على أُسس علمية فإن هذه مخاطرة، عندما يكون تجاوب العاملين في مراكز الامن بطيئا ومتعاليا ويتعاملون مع المشتكي على أنه المذنب ويتأخرون عن ملاحقة مرتكبي المخالفات القانونية فإن هذه مخاطرة. كيف لمستثمر نيوزلندي مثلا أن يقبل الاستثمار في الاردن إذا كان عليه أن يختار الموظفين على اساس عشائري أو مناطقي وليس على متطلبات الكفاءة، وأن يعتمد القانون العشائري بدل الرسمي وأن عليه أن يوجه جاهة ويأخذ عطوة اذا أضطر لمعاقبة موظف أو عامل.
هذا مجرد مثال. إضافة الى أن ضعف تطبيق الحكم الرشيد يقلل من احترام الدول الاخرى للدولة التي لا تطبقه ويقلل المساعدات الخارجية المرتبطة الى حد كبير باهداف الالفية الثانية واهداف التنمية المستدامة اللتين أقرتها الامم المتحدة ، كما لا يوفر البيئة المناسبة للسياحة والاستثمار. الاستثمار والسياحة ضروريان للحصول على العملة الصعبة، وتخفيض العجز في ميزان المدفوعات وتوطين التكنلوجيا المتقدمة التي لحد الان نحن غير قادرين على انتاجها، وخلق فرص عمل للباحثين عن عمل وبالتالي تقليل البطالة وتقليل الفقر المرافق للبطالة وانخفاض معدل الجريمة، وانخفاض الاعتماد على الدعم الحكومي للفقراء وزيادة حصيلة الضرائب الحكومية حتى ولو كانت معدلاتها منخفضة ودون الحاجة لاختراع انواع من الضرائب والرسوم والرخص لتجريف جيوب المواطنين.
المستثمر الاجنبي يقرأ ويسأل ويتحقق قبل ان يجلب أمواله وإمكاناته التكنلوجية الى بلد ما بغرض الاستثمار. ولما كانت الارقام المنشورة عن معايير الحكم الرشيد هي تعبير عن الواقع المعاش، فان معاناة المستثمرين غير خفية على أي مسؤول ولا على المتابعين للشأن العام ولا على المراقبين من السفارات العربية والاجنبية.
هل من الواقعية أن ننتظر من مستثمر محلي أو اجنبي عاقل أن يستثمر امواله في بلد يعاني من ضعف حكم القانون ومن ارتفاع نسبة العنف وعدم الاستقرار السياسي ومن تدني نوعية التشريعات والقرارات الحكومية ومن تدني فعالية الحكومة وكفائتها ومن انتشار الفساد وحتمية الخضوع لقوانينه وليس لقوانين الشرعية.
وطالما ان كافة الدول الغنية والفقيرة تتنافس على إجتذاب المستثمرين وتقديم الاغراءات المتعددة لهم، فان من الطبيعي أن يبتعد الاستثمار الاجنبي النظيف عن الاردن، وأن يهاجر الاستثمار المحلي. وأن لا يخاطر في الاستثمار في الاردن الا فئة المستثمرين المحليين الذين يتوجسون خوفا من العالم خارج باب الدار. وان لا يأتي من الخارج الا صيادي الفرص أو من يريدون غسل اموالهم أو من عقدوا شراكات مضمونة مع متنفذين.