حين أُخبِر (س) بالحقيقة القاتلة -وهو على وشك السقوط في الجحيم- قفز من جحيمه الذي ينتظره لينقضَّ على (ص) -جاثمًا بقدمه على عنق عمه الخائن- قائلًا: «قُل لُّهُم الحقيقة» فردَّ -كإعلامي محترف-: الحقيقة دائمًا نسبية!
. .
ولكن هل ثمة حقيقة أصلا؟ خاصة في وسائل الإعلام؟ كيف تُغيِّر وسائل الإعلام الأفكار والتصرُّفات؟!
في مرحلة ما قبل إدوارد بيرنيز -رائد «العلاقات العامة»، والذي يُعتبَر العرَّاب الحقيقي لـ «الخداع الإعلامي»- كانت الدعاية تتركَّز حول جودة ومزايا «المنتج» سواء كان منتجًا تجاريًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا. بعد بيرنيز لم تعد صفات المنتج هي الأهم، فقد اكتشف الرجل أن (إعادة صياغة الجمهور) ربما تكون أسهل من (تغيير المنتج)!
يقول إدوارد: «لو أننا فهمنا آليات العقل الجماعي ودوافعه، أليس من الممكن السيطرة على الجماهير وإخضاعهم لنسق موحد حسب رغبتنا دون أن يدركوا ذلك؟!»
وهذا بالضبط ما حدث ويحدث!
فوسائل الإعلام -اعتمادًا على نظريات العلوم التي تختص بدراسة السلوك الإنساني- استطاعت النجاح في «التموضع كمرجعية راسخة» داخل المجتمع، ليس معلوماتيًّا فقط، بل -أيضا- للقيم والتصورات والمواقف.
كما تُساهم بدرجة كبيرة في تشكيل إدراك الناس للواقع. وإذا قلنا إن الإنسان يتفاعل مع الواقع بحسب تصوُّره له، فإن الجهة التي تُشكِّل إدراك الإنسان لواقعه، تتحكم فيه حرفيًّا!
هكذا يوضِّح كتاب هندسة الجمهور لأحمد فهمي بأسلوب شيق ومباشر ومُبسَّط أهم الوسائل والطرق التي تتبعها وسائل الإعلام لتعيد صياغة أفكار الجمهور؛ فيقوم -على إثر ذلك- بتصرُّفات أو استجابات معيَّنة تُناسب أهداف الأداة الإعلامية.. وذلك دون أن يشعر!
منذ اللحظة التي تمسك بها الكتاب، تشعر بحاجة ماسة للمضي قدما في قراءته، حتى ولو لم تكن إعلاميا مثلنا، فالكتاب يتحدى مشاعرك مُنذ اللحظة الأولى التي تبدأ فيها بتقليب صفحاته، وأخطر ما فيه أنه يضعك في مواجهة حقيقة مؤلمة، سواء أكنت تعرفها أم لا، وهي أنك مهما كنت «محصنا» ضد تأثير وسائل الإعلام إلا أنك مجرد ضحية لتأثيرها، حتى لو كنت إعلاميا مخضرما!
كتب أحدهم معلقا على الكتاب: عند قراءتي للكتاب أحسست بالخوف والخطر وانبهرت بالقدرة الرهيبة للإعلام، وكنت دائماً ما أردد أن الإعلام أخطر أداة فكرية ولكن لم أتوقع أنه بهذه القوة! فهو يوضح لك آليات الإعلام في توجيه الرأي العام و «الجمهور» وقدرته الجبّارة في تقويض الأفكار والمعتقدات وتمرير الأجندات الفكرية ويهندس الإعلام العقول بتوظيف وتعديل وتنميط الخريطة الإدراكية للإنسان وآليات أخرى تسيطر على العقل الجماهيري .. وبالنهاية فإن [ من يدفع للزمار، يختر اللحن !
يطرح المؤلف السؤال الآتي: هل جربت يوما أن تحدد سؤالا يتعلق بالواقع، ثم تطرحه على عدة أشخاص من معارفك متنوعي الثقافة والتوجهات؟ حاول أن تفعل، وليكن سؤالك هو: كيف ترى نهاية الصراع بين العرب واليهود في فلسطين؟ ستفاجأ بإجابات متناقضة لدرجة مضحكة أحيانا، برغم التشابه العام بين هؤلاء الأشخاص في خصائص كثيرة.
ثم يتساءل المؤلف: ما الذي يجعل الاستجابة متنوعة ومتفاوتة تجاه الشيء نفسه إلى هذه الدرجة؟ الجواب: إنه ما يعرف بـ»النظام الإدراكي المعرفي للإنسان»، وأرجع المؤلف إلى ما سمّاه «الخريطة الإدراكية» مسؤولية تحديد ما يراه الإنسان في هذا الواقع الخام، فهي تستبعد وتهمش بعض التفاصيل فلا يراها، وتؤكد البعض الآخر بحيث يراها مهمة ومركزية.
وفقا لملاحظة المؤلف فثمة «ثلاث إستراتيجيات مختلفة للتعامل الإعلامي الدعائي مع الخريطة الإدراكية للجمهور، وهي: التوظيف، التعديل، والتنميط». فعن طريق تحليل الخريطة الإدراكية للجمهور يمكن صياغة الرسالة الإعلامية بحيث تتناسب مع تلك الخريطة، لتكون أكثر تأثيرا ولتحقق مستوى مرتفعا من الاستجابة، وأيضا لتهميش القدرات الدفاعية لدى المتلقي العادي بدرجة كبيرة.
أما تعديل الخريطة الإدراكية للجمهور، فيقول إن «الإعلام الموجه يسعى إلى تعديل النظام الإدراكي بصورة مستمرة من خلال ترسيخ بعض المزاعم وتحويلها إلى مسلمات، ومن خلال حذف وإضافة بعض المكونات والأفكار، لإعطاء صورة مزيفة عن الواقع»، ذلك أن «الوسيلة الأسهل لتعديل الخريطة الإدراكية، هي إغراق الجمهور بمعلومات كاذبة تجبره على تغيير تصوره عن الواقع كما هو في الحقيقة، ليستبدله بصورة أخرى زائفة».
الرسالة الأهم التي أراد المؤلف إيصالها عبر صفحات كتابه هي قوله: «أن ما يعرضه الإعلام ربما لا يكون إلا قمة جبل الجليد، التي تخفي وراءها قدرا كبيرا من التخطيط والجهود والتكنولوجيا، التي تستهدف ليس فقط توليد بعض الأفكار أو السلوكيات المتناثرة، كلا، فنحن نتحدث عن «هندسة المجتمع» بصورة شاملة»!
دون إعلام ليس بوسعك أن تحكم، أو أن تسيطر، والكذبة الكبرى التي لا يكاد يصدقها أحد هي الاعتقاد أن الإعلام «صناعة» واستثمار اقتصادي، أو صدقة جارية(!)
الدستور