تبدو المهمة عادية؛ حين تكون شاهد عيان على حراك مجتمعي يرفع شعارات سياسية، لكنها ليست كذلك حين نتعمق بالتفاصيل، وقبل أن نتوغل أكثر في الحديث عما يجري في بعض المدن الأردنية من رفض شعبي تحت مسمى «حراك»، نذكر بأننا لا ننحاز لأحد سواء أكان رسميا كالحكومة وشخوصها الذين يوجد بينهم شخصيات جدلية، أو أن ننحاز للحراك المنفلت الذي يقامر بما تبقى من ولاء وانتماء لهذه الأرض والدولة، إنما ندعم كل جهد رسمي يعزز التغيير المطلوب ويفتح مجالات أوسع للناس كي يعيشوا حياة مستقرة، محافظين على شعورهم الجميل تجاه وطنهم وتاريخه ومؤسساته، وندعم كل حراك منطقي مقنع يطالب بالتغيير البناء، بتقديم بدائل ممكنة، تقودنا الى النتيجة الوطنية ذاتها المطلوبة من أية حكومة.
بالأمس كان الاعتصام والمظاهرة وسائل ضغط على الحكومات، وأداة «مشروعة» ديمقراطيا للفت نظر واهتمام الحكومات الى الناس ومطالبهم، وكانت الحكومات والأجهزة الأمنية تستنفر بطريقة تنبىء عن سهولة استفزازها، لكن اليوم اصبح الأمر مختلفا، وأصبح «الحراك» سلوكا شبه نمطي، لا يستدعي اهتماما كبيرا كما كان يحدث بالأمس، وعلى الرغم من أن التفسير المبدئي لمثل هذه الحالة يزيد من حالة الاحباط،
إلا أن في الأمر وجهة نظر أخرى:
الدولة؛ أصبحت على جانب من الخبرة في التعامل مع استحقاقات الديمقراطية، وهي اليوم تمتاز برشاقة في التعامل مع أساليب التعبير الديمقراطي الملتزمة بالقانون أو المنفلتة، والفضل الأكبر في هذه النتيجة لا يمكن أن ننسبه للحكومة ولا لمؤسسة سوى دائرة المخابرات العامة، وجهازي الأمن العام والدرك، فهي الأدوات التي يراهن عليها الحراكيون النمطيون، الذين يسوقون فكرة الاستفزاز واستحضار القمع، فإذا بردة فعل الأجهزة الأمنية أكثر حضارية وديمقراطية مما توقع الحراكيون والمراقبون، بل إنها وكعادتها في مثل هذه المواقف، تعاملت بطريقة تقدمية ديمقراطية لم يتمكن أكثر الحراكيين نشاطا أن يصمد أمامها، فهو دعا الى الاعتصامات وأطلق لسانه بالهتافات بل «الشتائم».
النخبة السياسية المعارضة غائبة عن مثل هذه الحراكات، ولعل هذا أكبر دليل على عدم أهميتها، فالنخبة وكثيرون من قادة ورموز الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية، لا يجدون أنفسهم مع هذا الخطاب الهابط عن مستوى القناعة لدى النخبة السياسية المعارضة، .. فالمشهد فوضوي جدا ولا قيادة أو فكرة وطنية جامعة تسيطر على الحراك أو تهذب خطابه.
المعارضة مهمة في أي مجتمع أو دولة ديمقراطية، وغيابها يعتبر حالة مرضية في السياسة الحقيقية، وقد مرت عقود من غياب للمعارضة المؤثرة، التي تقدم بدائل سياسية، ومستعدة للتنافس مع القوى الأخرى في إدارة الشأن العام، حيث كانت المعارضات على شكل خصومات سياسية بين شخصيات سياسية واجتماعية وجهات بل فئات اجتماعية، أو معارضة حزبية أيدولوجية، تتجاوز حدود وقضايا الأردن الوطنية، وحين وصلت الدولة الأردنية الى درجات متقدمة على صعيد الإصلاح السياسي، فوجئت بعدم وجود معارضة يمكنها مجاراة هذه التغييرات، فلجأ الغاضبون الى إشغال هذه المساحة، لكن بطريقة متواضعة لا تقنع نخبة ولا ترفع من مستوى وعي سياسي أو تجذر مشاعر وطنية، سوى العزف على أوتار الأخلاقيات ونطح سقوفها.
الدستور