كنّا في رحلةٍ ضمّت مجموعةً من الأكاديميين وعائلاتهم قبل أسبوع في المنطقة المحاذية لمحميّة الغزلان في
جرش، وكانت ثمّة عائلاتٌ وطلبةُ مدارس احتشدوا بجانب سور المحميّة حيثُ كان يقفُ غزالٌ وحيدٌ ساهمٌ حزين...
وكأنّما حادثة اختفاء رفاقه ذات زمن ما زالت تؤثّرُ فيه حين وصلنا، كان سؤالُنا الأوّل كباراً وصغاراً عن دورة مياه...
فدّلونا على واحدةٍ ملحقةٍ بمسجدٍ قريب، لكنَّ الأمرَ انتهى بصدمة حين تبيّن لنا أنَّ حالة المرفق البائس من حيث
تدنّي مستوى النّظافة، لا تليق بحرمة المكان، ولا بالاستخدام الآدمي... فغادرناه ونحن ندعو االله ألا يُضطر أحدُ السّائحين الموجودين في المكان لزيارته.
شئنا تناولَ الشّاي، فجلسنا عند أحدِ الأكشاك المنتشرة هناك، والتي هي عبارةٌ عن غرفٍ متهالكة مبنيّةٍ من الزينكو، أو من الطّوب الرّماديّ الكئيب، مع بعض المقاعد البلاستيكيّة المهترئة التي تؤلم النّظرَ وسطَ المناظر الخلابة حولها، لكن ما أنسانا حالة التّضاد تلك، كان حسنُ تعامل المواطنين هناك، فالوجوه باسمة مرحّبة، وتقدّمُ خدمةً متواضعة، لكنّها خارجة من القلب، ثمَّ لا تجدُ هناك من يتبعك بذل في سبيل إكراميّة كما يحدث في بعض الدّول الأخرى، فثمة طيبةٌ ممزوجةٌ بالكثير من الأنَفة فيما يقدّمون...
انطباعٌ يدفعُ المرء لجملةٍ من التّداعيات، خاصّة مع ازدهارِ الحركة السياحيّة الدّاخليّة، والسّياحة من الخارج: ماذا لو أُعطيت للمواطنين هؤلاء، أبناء المنطقة، أكشاكٌ ذات تصاميم موّحدّة جذّابة ملوّنة ؟ مع إخضاعِهم لدوراتٍ بسيطة في أساليب الخدمة وفنونها؟
ماذا لو بنيت دوراتُ مياهٍ مناسبة في المنطقة، مع وجود من يعتني بشؤون نظافتها مقابل مبالغ رمزيّة يدفعُها المستخدمون لتلك المرافق؟
المفارقة أنَّ محميّة عجلون تقعُ على بعد كيلومتراتٍ معيّنة من ذلك المكان، حيث يربضُ مبنى بيئيّ باهر على مرتفعٍ ومحاطٌ بمساحةٍ نظيفةٍ زاهية، تابعٌ للجمعيّة الملكيّة لحماية الطّبيعة، المبنى الذي تعملُ في داخله فتياتٌ كزهر الرّبيع، فينتجن البسكويت الصّحي الّلذيذ، إضافة إلى أنواع الصّابون المختلفة بحرفيّة عالية، تحت إشراف الأكاديميّة الملكيّة، وحين تتجوّل داخل الغابة السّاحرة حولها تذهلك الطّبيعةُ الجميلة البكر... ثمَّ، وفي اللحظة التي تعودُ وترى فيها القاذورات ومخلّفات المتنزّهين... تعرفُ أنَّ حدود المحميّة انتهت.
شكراً للجمعيّة، لكنَّ جهودَها وحدَها ليست كافية، فكم كنّا نتمنّى لو أنَّ حمايةَ طبيعتنا الأثيرة تحوّلت إلى ثقافةٍ فردّية، ومسؤوليّةٍ جماعيّة بدل هذا الإمعان في تشويه المنطقة واغتيال مساحاتنا الخضراء المحدودة أصلاً بالنّفايات، لكن كيف يمكنُ تغييرُ السّلوكِ العدواني تجاه الطّبيعة من بعض المتنّزهين؟
في زمنٍ مضى، قررَّ أحدُ أمناء عمّان الكبرى زراعة أطاريف الأرصفة والجزر الوسطيّة بالأزهار... فواجه استهجاناً من الرّأي العام لأنَّ الأطفال آنذاك، كانوا قد اعتادوا قطف أيّ زهرةٍ من أي مكان، وطالما تجرّأ بعضُهم على حدائق الآخرين واعتدى على ورودها بقطفها خلسةً... لكنّه أصرَّ على موقفه، حجّته كانت أنَّ الصّغارَ إذا اعتادوا على رؤية الأزهار في كلِّ الأمكنة سيعتادون عليها إلى أن تصبحَ ظاهرةً مألوفةً لهم فلا يعد قطفُها غنيمة، أو أمراً مثيراً لهم... وتدريجيّاً، ثبت نجاحُ الفكرة، فنشأ جيلٌ عمّاني اعتادَ على رؤية الحدائقِ والأزهارِ دون أن يمدَّ يدَه نحوها بالسّرقة أو بالإيذاء.
السّؤال: ماذا لو جعلنا من تنظيفِ الغاباتِ وأماكنِ التنزّه همّاً جماعياً بدلَ تركِ الأمر لمبادرة هنا وأخرى هناك، ماذا لو هبّت المدارسُ والجامعات والمؤسّسات والشّركات لتنظيم حملاتٍ منتظمة مهمّتُها تخليصُ أراضينا البريئة من أطنان القاذورات؟ على أن تقومَ أمانة ُعمّان أو وزارة البيئة بتوزيع المناطق ليُصار إلى أن تتولّى كلُّ جهةٍ منطقة محدّدة، ألن يؤدّي ذلك إلى أن تعتادَ العيون تدريجيّاً على نظافةِ تلك المناطق، فيتغيّرَ السّلوكُ السّلبي تدريجيّاً... بمعنى، ماذا لو أصبحَ الوطنُ كلّه جمعيّةً كبرى لحماية البيئةِ والطّبيعةِ والجمال... أهوَ ضربٌ من الخيال؟ آمل ألا يكون كذلك، ومرحى للرّبيع في أردنِ الجميع.