قراءة في رواية د.هشام الدباغ (ترويض الشهوات)
07-04-2018 09:41 AM
عمون- يقدم محمد المشايخ قراءة في رواية ترويض الشهوات للكاتب الدكتور هشام الدباغ.
رغم العدد الضخم من الروايات التي شهدتها المكتبة العربية في السنوات الأخيرة، إلا أن رواية(ترويض الشهوات)للأديب والإعلامي الدكتور هشام الدباغ، سجـّلت تفوّقا على معظمها، كما حققت تميّزا وتجديدا موضوعيا وجماليا، فشكلت فتحا جديدا في الرواية العربية.
فهشام الدباغ واسع الثقافة، وموسوعة أدبية، وبلدوزر في الكتابة، وحين يكتب، يـُطلق نفسه على سجيتها، فتبدع ما يُدهش وما يسحر الألباب، وكأن كل ما في الدنيا من تشويق وبث لحب الاستطلاع موجود في كتاباته، وها هو يقول عن بطل روايته: (هاني إسفنجة برية يمتص عصير الكتب ليفرز بعد ذلك نتاجات شعرية وفلسفية ونقدية وحتى درامية..كان في نشاط محموم لدى المنابر الثقافية والمحطات الفضائية في الدول الخليجية).
تعكس هذه الرواية قدرات د.هشام الدباغ اللغوية، والبلاغية، وملكاته الأسلوبية والموسيقية والتصويرية والدرامية ومشاهده السينمائية، وتظهر مغامراته العاطفية، وكشفه الجريء والواضح والصريح لما يجري في عالمنا من كبت عاطفي وعنف جنسي بين المراهقين من كل الأجيال، إنها الرواية العربية الأولى التي تعالج المخفي والممنوع والمسكوت عنه بين من هم في عمر الورود في عالمنا العربي عبر السيرة والاعترافات الروائية،وقد نجح في ذلك كثيرا، لأنه منح مـَلـَكـَته الأدبية حريتها لتسترجع ما تشاء من مما رأت وعايشت، فتنطق بالفصحى ونادرا بالعامية أو باللغات الأجنبية، محدثا تداخلا بين الأجناس الأدبية وبين القرآن والأحاديث النبوية والحكم والأمثال والأغاني والقصائد والرسائل والأفلام والإعلام والدراما والقصة داخل قصة والسيرة الذاتية والغيرية،ولم تكتف الرواية بالأجناس الأدبية المطروقة اليوم،بل نجدها تميل حتى إلى فن المقامات وما في أسلوب كتابتها من سجع وجناس وغيرها من ضروب البيان، يقول د.الدباغ عن روايته:"هي خواطر مسافر بين البلدان والغلمان والنسوان، على شكل أقصوصة مقصوصة من واقع الحياة وفي مدارج عديدة لأحوال الزمان والمكان"، ويُضيف لدى وصفه متطلبات الكتابة الدرامية، وهي نفسها التي توافرت في روايته:(لغة الحدث الدرامي جميلة جدا وعالية المستوى والمحتوى وتحتاج إلى ضليع في العربية والنحو وفنون البلاغة ).
ورغم التفاصيل والجزئيات التي أطنب د.الدباغ في سردها في روايته، والتي نسبها إلى بطلها(هاني) ورغم ما أحدثه من تمويه وتورية، ومن تغيير في أسماء الأماكن والأعلام، إلا أن كل الدلائل والنصوص تشير إلى أن هاني هو(د.هشام الدباغ نفسه)، أما المقطع التالي من الرواية فيلخصها كاملة: (ذنوب ذنوب، تملأ الدنيا من الشمال إلى الجنوب، فقد طاف هاني العالم من أقصاه إلى أقصاه،وفي كل بلد كان يترك فيها مباءة أو إساءة، لا ينثني ولا يرعوي ولا يهاب من أي عقاب أو حساب..فقد أخذ منه المروق والعقوق كل مأخذ..لقد وصل في انحرافه إلى الدرجة360في دائرة الوجود وآن له الآن وقبل فوات الأوان أن يقفز القفزة التالية من النقيض إلى النقيض..ليقفز إلى المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
وبذلك لخص الروائي رحلته إلى أوصلته إلى مرحلة كبح جماح الشهوات والتمسك بالإيمان، الأيمان الذي لم يفارقه يوما، وحال دون ارتكابه الكثير من المعاصي.
وقارئ الرواية يدهشه ما فيها من سرد روحي سعيد،ومن مونولوجات داخلية، ومن نجوى للنفس البشرية، التي أسلمت نفسها للشر الخفيف، ولم يسعفها إلا رفضها للانحراف رغم كثرة الذين كانوا يوجهونها له، فانتصر الخير على الشر، وعاد للدين ذلك المتمرد الذي كان يهرب من المدرسة للسينما، والذي كان يبيع كتب شقيقته المدرسية وملابس والدته ليشتري لنفسه كتبا، والذي كان حب الدنيا شغله الشاغل، والخوض في الملذات والمتع الجسدية ديدنه في كل زمان ومكان،والذي كان يلاحظ ارتفاع نسب الشذوذ العاطفي، وحالات العشق المتبادل بين الفتيان أنفسهم، وبين الفتيات وزميلاتهن، والذي قال إن الإنسان في مرحلة الشباب لديه شحنة عاطفية مكبوتة، والشاب المراهق يجد نفسه مسوقا إلى عشق صديق يرتاح له،ومن ثم الانتقال إلى مرحلة التقبيل الذي لولا الوازع الديني لصار علاقة شاذة، إذ نتيجة الحصار تقوم بين مثلي الجنسية صداقات(التابو)والمحرمات،التي ينتهزها قبضايات المدارس الثانوية، ويتم إخفاءها خشية الفضيحة، وبطل الرواية نفسه الذي خاض تجارب مريرة وكلما نهض من واحدة غاص في الأخرى حتى أذنيه، هذا البطل نفسه يقول: ما من شك أن الإنسان يتعلم من تجاربه، فيودع كل هذه السلبيات، وينتقل إلى مرحلة التعمّق في الدين، بل إلى درجة التصوّف.
ثمة محطات كثيرة توقفت عندها الرواية، ولا سيما تلك التي كانت تواكب سفر بطلها بين سوريا ومصر(والالتقاء مع عبد الحليم حافظ وشمس البارودي وغيرهما من نجوم الفن العربي)،وبين الكويت، وماليزيا(وشذوذ ابن الخال عفيف غير العفيف والذي كانت له رواية خاصة ولكنها دخلت تحت إبط رواية هاني في ترويض الشهوات)، ومن ثم لوس انجلوس،و دول الخليج،وما صاحب ذلك من صعود وهبوط في العلاقات والصداقات، ليُصبح بطل الرواية في نهايتها مصلحا اجتماعيا، بل مصلحا دينيا، وساعيا لتجديد الفكر الديني
سيندهش قارئ الرواية لما فيها من أغان ٍ، ومن نماذج شعرية جميلة، أبدعها د.هشام الدباغ ضمن شعره الصوفي، واستخدم بعضها لغيره تقرّبا من زوجته كقوله لها من شعر أمين نخلة:( أحبك في القنوط وفي التمني..كأني منك صرت وصرت مني)..الى آخر القصيدة.
لقد قرأت الكثير من السير الذاتية والغيرية في الروايات العربية، ولكنني منذ مطالعتي لاعترافات جان جاك روسو، لم أجد ما يشبهها إلا اعترافات د.هشام الدباغ في روايته(ترويض الشهوات)، ورغم أن روسو انتهى من كتابة اعترافاته عام 1769 ولا علاقة لما في كتابه بما في رواية الدباغ ، فقد سجـّل روسو أدق تفاصيل أحداث حياته خيرها وشرها ، طيبها وخبثها، وكأنه مؤمن صادق التوبة يُصارح إلهه بأخطائه برهاناً على صدق توبته، والتماساً لصفحه، والأمر نفسه فعله د.الدباغ، ولكن بأسلوب ومضمون مختلفين.