ابو عودة يتحدث عن الحسين وادارة الازمات
03-04-2018 01:25 PM
عمون - عقد مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية أمس الاحد ندوة بعنوان 'الحسين وإدارة الأزمات' لرئيس الديوان الملكي الاسبق عدنان أبو عودة ضمن سلسلة نشاطات 'كرسي الملك الحسين'.
وتحدث ابو عودة عن 7 ازمات مرت في عهد الملك الحسين عايش ستاً منها بحكم عمه، فيما تابع السابعة من الخارج وهي:
1- مواجهة أيلول العسكرية بين الدولة والمنظمات الفدائية 1970
2- حرب رمضان أو أكتوبر 1973
3- زيارة السادات للقدس والصلح المصري المنفرد 1977-1978
4- أزمة منظمة التحرير والممثل الشرعي الوحيد 1974-1986
5- الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية المعروفة بـ " هبّة معان" 1989
6- احتلال الجيش العراقي لدولة الكويت في 2/8/1990
7- الاحتكاك الأمني المبكر مع إسرائيل بعد معاهدة السلام (مشكلة الدقامسة وخالد مشعل)
وبدوره رحب الدكتور موسى شتيوي مدير مركز الدراسات الإستراتيجية بأبو عودة والضيوف الحاضرين.
وتاليا نص محاضرة ابو عودة:
تشرفت بأن كلفني مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية أن أتحدث عن نهج جلالة المرحوم الملك الحسين في إدارة الأزمات . وقد اخترت سبع أزمات عايشت ستاً منها بحكم عملي، وتابعت السابعة من الخارج.
هذه الأزمات هي :
1- مواجهة أيلول العسكرية بين الدولة والمنظمات الفدائية 1970
2- حرب رمضان أو أكتوبر 1973
3- زيارة السادات للقدس والصلح المصري المنفرد 1977-1978
4- أزمة منظمة التحرير والممثل الشرعي الوحيد 1974-1986
5- الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية المعروفة بـ " هبّة معان" 1989
6- احتلال الجيش العراقي لدولة الكويت في 2/8/1990
7- الاحتكاك الأمني المبكر مع إسرائيل بعد معاهدة السلام (مشكلة الدقامسة وخالد مشعل)
وقبل أن أتناول هذه الأزمات واحدة واحدة ، أرى من الضروري الإشارة الى شخصيته القيادية ومكنوناتها الفكرية والسيكولوجية وضميره الإنساني، الذي طالما تكشف للمقربين منه من أصدقاء ومسؤولين وموظفين، والذي كان يقف وراء سلوكه ومقارباته المتميزة بالرحمة والتعاطف والتفهم والصبر وحُسن الاستماع واحترام الآخر والتسامح. وفي يقيني أن هذه السجايا الإنسانية معروفة لديكم . لكنني سأختار خاصية واحدة اكتشفتها حينما كنت أحظى بصحبته مع عدد من المسؤولين المرافقين له في ليالي القدر، التي كان يختارها كل عام لأداء مناسك العمرة في مكة المكرمة التي كنا بعد الانتهاء منها نغادر بصحبته الى المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول الأعظم . وهناك كان يُفتح لجلالته باب الضريح، فتراه يتعجل الخطى نحوه ملقياً ذراعيه عليه كما لو كان يعانقه بعد غياب، ساعياً لبلوغ أقصى أشواقه النورانية لجده المصطفى صلى الله عليه وسلم.
في تلك اللحظات كنت أرى التاريخ يضيء في عينيه كأنما كان يجدد عهد الوفاء لهاشميته ببعدها النهضوي العربي الذي نادى به وضحّى من أجله جده الحسين بن علي، وبُعدها المقدسي الذي جدد الالتزام به جده المؤسس عبدالله بن الحسين حينما خالف التوجه البريطاني عام 1948 للالتزام بقرار الأمم المتحدة بتدويل القدس، كما جاء في قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين عام 1947 وأمر الضباط الأردنيين بإنقاذ القدس الشرقية التي كانت العصابات الصهيونية تهاجمها من أجل احتلالها . كذلك حينما اتخذ الحسين نفسه قرار فك العلاقة القانونية والإدارية في تموز/يوليو 1988 مع الضفة الغربية، حرص على الحفاظ على رباطه مع القدس من خلال وزارة الأوقاف الأردنية. ما أردت أن أبيّنه - سيداتي وسادتي - أن التاريخ بُبعديه: الديني والقومي كان في جوهر قيادته الفكرية والسياسية . أما على صعيد البُعد القومي؛ فقد سارع في الأول من آذار/ مارس 1956 للاندماج مع حركة التحرر الوطني في العالم العربي، التي صبغت عقد الخمسينات من القرن الماضي بتعريب الجيش، وبعد ذلك بعام واحد، ألغى المعاهدة الأردنية البريطانية . ولعل أكبر شاهد على حكمة قيادته؛ هو عدد زعماء العالم الذين قدموا الى عمان للمشاركة في تشييع جثمانه في شباط/ فبراير 1999 بمن فيهم الزعيم الروسي يلتسين، الذي لم يعرف سيدنا بلقاء مباشر، بينما عرف عنه فجاء اعترافاً له، وإعجاباً بقيادته لما يقرب من نصف قرن لبلد صغير قليل الموارد تركه آمناً مستقراً متحركاً على طريق الديمقراطية على هدى ميثاق وطني. وفوق هذا وذاك تميّز بحرصه على التواصل مع شعبة خارج إطار السلطة التنفيذية ابتداء من حرصة على الاستماع لبرنامج البث المباشر الإذاعي صباحاً حينما كان من خلاله يتعرف على شكاوي المواطنين فضلاً عن حرصه على الالتقاء مع شعبة في تجمعاتهم في المدن والقرى والبادية والمخيمات. ولهذا كان دائما على اطلاع وثيق بمزاج المواطنين بمختلف فئاتهم العمرية نساء ورجالاً.
- أزمة أيلول 1970
"كانت أسباب الصدام متوفرة . أنا فقدت السيطرة على عمان ولم تكن لي سلطة في الحكم. كان هناك حوالي 60 ألفاً من أعضاء المنظمات يحملون السلاح والذخيرة والعقائد السياسية المختلفة، ولا تحكمهم قاعدة معينة. منزلي كان محاطاً بقواعد الفدائيين، والبنادق موجهة لي . لقد تحوّل العمل الفدائي الى عمل حزبي . في البداية كنا مع العمل الفدائي المتوجه للعمل داخل الأراضي المحتلة. اما أن ينشغل العمل الفدائي ببعضه البعض ونصبح الضحية بينما إسرائيل تتفرج فقد كان من الصعب الصبر". ذكر جلالته ذلك في مقابلة صحفية مع الأستاذ أحمد الجارالله رئيس تحرير جريدة السياسة الكويتية في شباط/فبراير 1972.
بهذه الكلمات لخّص المرحوم تطور الصراع بين شرعية الدولة ومنظمات مسلحة غيّرت توجهها من التحرير الى تغيير النظام، وجوهرها قوله " لقد تحوّل العمل الفدائي الى عمل حزبي" .
تطورات هذا التفاعل يمكن التعرف عليها في الجزء الثاني من كتاب "تاريخ الأردن والهاشميين" من تأليف المرحوم المؤرخ سليمان موسى . ومع ذلك سأذكر عدداً من الحوادث والمظاهر التي تساعد على التعرف على هذا الانهيار في العلاقة خارج نطاق الفهم العام الموروث ممن استقوا معلوماتهم وأحكامهم من الإعلام العربي، الذي كان محكوماً للمزاج الشعبي العربي العام، الذي كان يرى في الفدائيين مناط أملهم في محو الحسّ بالإذلال من هزيمة الجيوش العربية في عدوان حزيران/يونيو 1967 ولا يقبل المسّ بهم، لأن كشف الحقيقة التي انحدروا إليها ستسبب لهم إحباطاً جديداً هم في غنى عنه، وبخاصة أنهم لم يتعافوا بعد من إحباط حزيران، فكان العمل الفدائي هو الترياق القومي لهم.
- بدأت قدرة الدولة على المحافظة على النظام العام تتراجع، حتى وصلت مرحلة أصبح ينادي بها أحد المنادين في محطة باصات مخيم الوحدات " يا الله يا الله ! باص الجمهورية"
- كانت الاتفاقات التي تُعقد بين الحكومة واللجنة المركزية لا تصمد أكثر من يوم واحد وأحياناً ربما ساعات . لأن بعض المنظمات كانت لا تلتزم بالاتفاق ، فلها أهدافها الخاصة بها.
- جرت المحاولة الأولى لاغتيال المرحوم الملك حسين في 9 حزيران/يونيو 1970 حينما تعرّض موكبه في دوار صويلح لكمين قُتل وجُرح على إثره عدد من حرسه الخاص.
- في 11حزيران/يونيو استجاب جلالة المرحوم لمطالب المنظمات بإعفاء خاله الشريف ناصر وابن عمه الشريف زيد بن شاكر من منصبيهما.
- 1/9/1970 جرت المحاولة الثانية لاغتيال المرحوم في منطقة عين غزال، حينما كان المرحوم متوجهاً لمطار ماركا لاستقبال كريمته الأميرة عالية .
- وفي هذا اليوم كان "مانشيت" جريدة فتح : " إذا أرادت السلطة الصدام فسيكون الصدام الأخير".
- وفي اليوم التالي كان "المانشيت" في الجريدة نفسها " عمان تتحدى الجلادين".
- وفي مساء اليوم نفسه، وجّهت الحكومة العراقية إنذاراً للأردن، جاء فيه أن الحكومة العراقية ترجو أن تتوقف القوات الأردنية عن إطلاق النار على الفدائيين، وإلا فإن الحكومة العراقية لن يكون بوسعها منع قواتها من التدخل لصالح الفدائيين. .
- وفي الثاني من أيلول عُقدت ندوة فلسطين العالمية في عمان، وجاء في خطاب عرفات: " إنني أشعر بالفخر لعقد هذه الندوة ليس في ظلال السلطة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمخابرات المركزية الأمريكية، ولكن في ظل بنادق إخوانكم الثوار"، (لاحظوا أمرين اثنين : الأول بأن الفدائيين هم السلطة، والثاني الإشارة الى الثوار بدل رجال المقاومة) هذه الجملة تفضح الحالة الذهنية السائدة في أوساط الفدائيين.
- 5/9/1970 قرر مجلس الجامعة العربية إحياء لجنة التوفيق والوساطة العربية . قدِمت اللجنة برئاسة أمين طاهر شبلي، ممثل السودان في الجامعة الى عمان، وعقد اتفاق جديد بين الحكومة الأردنية و الفدائيين. وُقّع في 8/9/1970 لكن المنظمات لم تتقيد به.
- لأنه في 6/9/ 1970حدث تطور جديد تمثل في اختطاف الجبهة الشعبية لثلاث طائرات ركاب مدنية، واحدة سويسرية والأخريان أمريكيتان، وبعد يومين اختطفوا طائرة بريطانية، وهبطوا بها جميعاً ما عدا طيارة جمبو أمريكية في المطار الصحراوي في قيعان خنّة شرق عمان.
- جاء وفد من الصليب الأحمر لمفاوضة المُختطِفين، ولم يتصلوا بالحكومة وحتى بجلالة الملك كما لو لم تكن هناك سلطة رسمية.
- وفي 14/9 اتخذ المجلس الأعلى للاتحادات النقابية والعمالية الأردني باعتماده التنظيم الشعبي الذي كان يعتمد عليه المرحوم عرفات والفصائل الأخرى قراراً بإعلان العصيان المدني في 19 أيلول .
- في هذه الأيام وبسبب اختطاف الطائرات، اندفعت الى عمان جموع من الصحفيين الأجانب. وحتى نَعي كيف رأى الصحفيون القادمون من الخارج واقع الأردن، أُسجّل فقرة من رسالة مشتركة كتبها الصحفيون البريطانيون ذكروا فيها :
"أن عمان أصبحت ميدان معركة تسمع فيها دوي المدافع والصواريخ وأزيز رصاص الرشاشات . لا توجد هنا سلطة".
أصبح وضع الدولة على حافة الانهيار والفوضى . ولذلك نفد صبر جلالته، وأخذ قراره لحسم الموقف لإنقاذ الدولة، فكانت الحكومة العسكرية التي أعلن عن تشكيلها صباح 16/9/1970.
- ولأن جلالته لم يكن متأكداً من النتيجة، فاستيقظت في ذاكرته أحداث بغداد ومصير العائلة المالكة إثر نجاح الانقلاب العسكري في 14 تموز/ يوليو 1958 لذلك أرسل عائلته: أطفاله الأربعة ووالدتهم الى بريطانيا، كما أرسل بقية العائلة من أطفال ونساء وشيوخ الى العقبة ليكونوا قريبين من المملكة السعودية في حالة فشله في إنقاذ النظام.
- حينما شكّل الحكومة العسكرية، شكلها في بيته لعدم ثقته بالوصول الى الديوان الملكي بأمان.
- كان قد وصل الى عمان قبيل المواجهة السفير الأمريكي الجديد Dean Brown ولم يستطع تقديم أوراق اعتماده لجلالته ، وحينما هدأ الوضع قليلاً في 26/9/1970 نُقل في مدرعة من الأمن العام الى بيت المرحوم في الحمّر، حيث قدّم أوراق الاعتماد التي تُقدم عادة في احتفال في القصر الملكي.
- كتب Brown في مذكراته أنه بعد تقديم أوراق الاعتماد جلس قليلاً مع جلالة المرحوم وسأله : " ماذا أنت فاعل ؟ " أجاب سيدنا : " لقد وضعت كل أوراقي على الطاولة فإما ان استرد ما فقدت أو أفقد كل شيء" .
- حينما شُكلت الحكومة العسكرية كانت في عمّان لجنة المصالحة والتوفيق المبعوثة من الجامعة العربية؛ أي أن المشكلة الداخلية تحوّلت الى مشكلة قومية أو إقليمية.
في 16/9/1970 أعلن تشكيل الحكومة العسكرية في نشرة السابعة صباحاً، وبعد إعلان الحكومة العسكرية وجّه جلالة المرحوم خطاباً للأمة دعا فيه للوحدة الوطنية، وأشار إلى موقف الفدائيين في الكرامة، وقال:" إن المقاومة موجودة بملء إرادتنا ولقد مكّنا لها منذ البداية وحميناها لتنمو وتقوى.....فلا مجال للتفكير مطلقاً بتصفيتها"، وفي الساعة العاشرة وكنت أجلس مع رئيس الوزراء، طلب المرحوم الزعيم محمد داود من مقسم القيادة أن يصلوه بالمرحوم ياسر عرفات ، بادر الرئيس في مكالمته مع عرفات باستحلافه بدم الشهداء وبالقدس وبالمسجد الأقصى أن يعملا سوياً لوضع حد لهذه الفوضى التي لن يستفيد منها سوى العدو.
سألت الرئيس عما قاله عرفات، فقال إنه سيجيبه بعد أن يستشير رفاقه في اللجنة المركزية، بقينا ننتظر الإجابة حتى العاشرة مساء، حينما رن جرس الهاتف الذي تناوله الرئيس ولم يكد يحمله حتى أعاده بعد أن قال: نعم أنا محمد داود، وكان وجهه متجهماً كما لو أن ما سمعه لم يزد على ثوانٍ قليلة، فسألته من الذي تكلم قال: شخص وصف نفسه بأنه مكلف من عرفات لينقل لي جواب اللجنة المركزية، وهو أنها لن تتعاون مع حكومة عسكرية.
سألته: وما العمل؟ قال: سأعيد المحاولة غداً، وفي تلك اللحظة انتهى العمل السياسي واتخذ القرار بتطهير عمان، وعند الفجر قُصفت القيادة في العبدلي وبدأت المواجهة.
تفاقم الأزمة
مساء 18 أيلول عَبَر اللواء السوري المدرع الحدود من درعا إلى الرمثا لتلحق به كتائب جيش التحرير الفلسطيني الثلاث، وفي مساء 20 أيلول استدعى جلالته المرحوم الحكومة العسكرية لبيته في الحمّر، كان إطلاق النار على أشده في عمان، وكانت الحكومة العسكرية تقيم في مقر القيادة الحربية . ولم يكن بالإمكان المحافظة على سلامة أعضائها من الانتقال من العبدلي إلى الحمّر إذا ذهب الوزراء في سيارات عادية، ولذلك نُقلنا في مدرعات إلى الحمّر، حيث كان جلالة المرحوم بانتظارنا، في شرفة منزله توسطنا وكانت الشمس في بداية الغروب قال لنا: "لقد دخلت قوات مدرعة سورية إلى أرضنا في الشمال ومعها كتائب من جيش التحرير الفلسطيني جيشنا هناك قاتلهم ويقاتلهم بشراسة" وكان قائد الفرقة قد ترك وحل محله في القيادة الزعيم عطالله غاصب وقد أصيب بشظايا قنبلة في ذراعه، الأمر الذي عطله عن المتابعة الحثيثة بسب إبر المورفين التي يأخذها لتخفيف الآلم وقواتنا تقاتل، أما القوات السورية فتقدمت وتجاوزت مفرق النعيمة في طريقها إلى ثغرة عصفور باتجاه عمان ومن باب الاحتياط أصدرت الأمر لقواتنا في الجبهة للتحرك للدفاع عن العاصمة، ومن باب الاحتياط أيضاً أطلب منكم تفويضي لاستدعاء قوات صديقة إذا اضطررنا لذلك وآمل ألا نضطر" توقع جلالة استجابة فورية، لكنه سمع "همهمة" ، وبفراسته المعروفة أدرك أن هناك ترددا فقال:" يا إخوان أترككم للتشاور وحينما تتوصلون إلى قرار أبلغوني" وتركنا وخرج من الشرفة، وبدأنا حواراً عن استدعاء قوات صديقة، وذكر أحدهم الجيش البريطاني الذي استدعيناه عام 1958، فالضباط الوزراء جميعاً ينتمون إلى جيل يذكر ذلك الحدث الذي وقع قبل اثني عشر عاماً.
أحسست أن التردد مصدره الكبرياء العسكري، فدخلت بالحوار محاولاً جعل الكبرياء العسكري ثانوياً بالنسبة لسقوط العاصمة والنظام، فقلت: " يا إخوان الوضع كما وصفه جلالته خطير فحينما يستدعي جلالته قواتنا من الجبهة للدفاع عن العاصمة يعني أن الدولة في خطر، وحينما تكون العاصمة مهددة بالسقوط أنا لا يهمني شخصياً أن ندعو أحد اصدقائنا لمساعدتنا لحماية العاصمة التي تعني حماية الدولة، وهذا الهدف هو أولاً وآخراً واجب القوات المسلحة، وأخيرا أيّ كبرياء عسكري يمكن أن ندّعيه إذا سقطت العاصمة وبعدها النظام"، يبدو أن هذا المنطق أثّر في الزملاء وأخذ الحوار منحى آخر.
وأخيراً اتفقنا وكتبنا قرارنا بتفويض جلالته باتخاذ كافة الإجراءات التي يراها جلالته ضرورية لحماية المملكة، وصون سيادتها واستقلالها في وجه كل ما يعرّض الوجود الوطني والمصلحة القومية والقضية المصيرية للانتكاسات والأخطار.
كما علِمت في ما بعد فقد كلّف جلالته السيد زيد الرفاعي، الذي كان مستشاراً في الديوان الملكي آنذاك بالاتصال بالسفارة الأمريكية لتتصل بواشنطن بطلب المساعدة، وبهذا التفويض تطورت الأزمة من إقليمية الى دولية.
وكما قرأت فيما بعد في مصادر أمريكية، عقد الرئيس نيكسون اجتماعاً مع مستشاريه السياسيين والأمنيين، فقرروا التدخل. وبادر وزير الخارجية روجرز الاتصال بنظيره السوفييتي طالبا منه أن يضغط على حلفائه السوريين بسحب قواتهم فوراً، وكي تعطي الإدارة الأمريكية صدقية لطلبها الجاد من السوفييت، حركت أسطولها السادس في شرق المتوسط ، كما اتصلت الخارجية الأمريكية بالحكومة السورية طالبة منها أن تبادر لسحب قواتها. وفي الوقت نفسه، بعث جلالة المرحوم برقيات إلى ملوك العرب ورؤسائهم أبلغهم فيها نبأ الغزو السوري للأردن الذي من شأنه خلق الفرصة أمام اجتياح إسرائيل للأردن، كما استدعى سفراء الدول الأربع الكبرى وأبلغهم أن بلاده تتعرض للغزو، وطلب من دولهم أن تعمل بجميع الوسائل السياسية للمحافظة على سلامة المملكة واستقلالها.
علينا أن نلاحظ هنا حكمة المرحوم القائد والسياسي، حينما وظّف الأمم المتحدة وقواعد الحرب الباردة باعتبار أن الأردن حليف أمريكا، وسورية حليفة الاتحاد السوفييتي. و كانت هذه المرة ـأبرز الفوائد التي جناها الأردن من وقوفه مع الكتلة الغربية في الحرب الباردة، كما استعان بالجامعة العربية، بالإضافة إلى قواتنا المسلحة ليحمي وطنه وشعبه،
أزمة الغزو انتهت لكن أزمة الفدائيين استمرت.
وبعبارة أخرى؛ بدأت الأزمة محلية ثم تحوّلت إلى إقليمية وبعدها إلى دولية، وبانسحاب القوات السورية انتهت الأزمة ببعدها الدولي، واستمرت ببعدها الإقليمي الذي أخذ شكل الإعلام المعادي وبُعدها المحلي.
لنعد إلى البُعد الاقليمي أو القومي، فقد دعا المرحوم عبد الناصر إلى قمة عربية في القاهرة، وأناب الحسين عنه رئيس الوزراء محمد داود؛ والمرحوم أحمد الطراونة من الديوان الملكي؛ وأحمد عبيدات من المخابرات، انعقد المؤتمر في 22 أيلول لكن في 24 أيلول قدّم رئيس الوفد محمد داود استقالته، ولجأ إلى ليبيا، وفي 27 أيلول ذهب المرحوم إلى القاهرة، حيث توصل المؤتمر إلى اتفاقية القاهرة التي وقعها المرحومان الحسين وعرفات، وتألفت الاتفاقية من 14 بنداً، منها تشكيل لجنة متابعة برئاسة المرحوم الباهي الأدغم، رئيس وزراء تونس الأسبق مع عضو أردني، وآخر عن المنظمات. بدأت اللجنة عملها في 28/9/1970، وفي 1/10/1970 أصدرت لجنة المتابعة قراراً بسحب قوات الجيش من القواعد الفدائية التي كانت تحتلها، وأن ينسحب الفدائيون من عمان ليتجمعوا أولاً في أحراش جرش ثم تعود بعد ذلك إلى قواعدها القديمة.
وفي 13/10/1970 عقدت اتفاقية شاملة بإشراف الباهي الأدغم وقّع عليها جلالة المرحوم وعرفات، وشهد عليها الباهي الأدغم، ووفق هذه الاتفاقية تأكد على أن اللجنة المركزية هي الممثل الوحيد للمنظمات الفدائية، كما اعترفت بسيادة الدولة الأردنية على أراضي البلاد.
وفي 5/4/1971 وصلت الأمور إلى انسحاب الفدائيين بأسلحتهم من عمان إلى أحراش جرش، وبعد أسبوع؛ أي 13/4 أعلن الباهي الأدغم استقالته، وباستقالته يكون البُعد الاقليمي في الأزمة قد انتهى، وبقي البُعد الوطني أو الداخلي.
وبعد تمركز قوات من الفدائيين في أحراش جرش بالاتفاق مع الحكومة الأردنية كان يفترض أن تتابع الحكومة مع اللجنة المركزية برنامج تطبيق اتفاقية القاهرة، غير أن المنظمات التي خرجت من عمان والتي اتضح أنها لا تخضع لقرار القيادة بدأت بالتحرش بسكان القرى والبلدات من حولها، وكذلك بدوريات القوات المسلحة التي كانت في وضع معنوي عال، الأمر الذي جعلها ترد على أي استفزاز بقوة السلاح. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الوزراء آنذاك المرحوم وصفي التل شرح تطور الأحداث التي انتهت بإخراج المنظمات الفدائية بعد اشتباكات جرش من الأردن. وجاء في بيانه أن الفدائيين دأبوا على إطلاق النار على المزارعين وقصفوا في بعض الأحيان القرى بالصواريخ والهاون، وزرعوا الألغام في الحقول، مما أدى إلى تدمير 11 تراكتور وسبع آليات تعود للمزارعين. اتصلت الحكومة باللجنة المركزية طالبة منها وقف هذه الأعمال، وحددت اللجنة مكانا آخر للإقامة فيه بعيداً عن التجمعات السكانية، فوافقت اللجنة، إلا أن الفصائل لم تتوقف عن إطلاق النار على المزارعين ونصب الكمائن لدوريات الجيش، الأمر الذي أدى بوحدات الجيش المجاورة في 13/7/1971 للاشتباك معها وإخراجها بعد خمسة أيام من المنطقة، واعتقال العديد من أفرادها، وفتح الطريق أمامهم لمغادرة الأردن، وبعد هذا الحدث، انتقل العمل الفدائي تاريخياً من الانطلاق من الأردن إلى الانطلاق من لبنان حتى 1982 حينما اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان وحاصرت بيروت العاصمة، وانتهى بذلك البُعد المحلي للأزمة.
لكي نمنع هذا التطور من شق الشعب على قاعدة أردني وفلسطيني وخروج الفدائيين، اتفق جلالته مع الرئيس وصفي على تشكيل تنظيم سياسي باسم "الاتحاد الوطني الأردني"، افتُتح المؤتمر الأول للاتحاد الوطني في 25/11/1971 ، كان جلالة المرحوم رئيس الاتحاد، وعيّن المرحوم مصطفى دودين أميناً عاماً له، وخلفته شخصياً ليخلفني المرحوم جمعة حماد، ولا بد من ملاحظة أن ثلاثتنا من أصول فلسطينية.
الأزمة الثانية حرب أكتوبر 1973
كانت حرب رمضان في تشرين الأول 1973 أو حرب أكتوبر كما هي معروفة مصرياً.
لماذا شكّلت هذه الحرب التي شنتها مصر وسورية بشكل مفاجئ في أكتوبر 1973 وهلّل لها العرب كل العرب في بدايتها، أزمة للأردن؟ وكيف عالج المرحوم الحسين هذه الأزمة؟.
بعد أزمة أيلول قطعت سورية علاقاتها الدبلوماسية مع الأردن، وبعد مشروع الأردن المقترح لإقامة المملكة العربية المتحدة 1972 بين الأردن وفلسطين، بعد تحرير الضفة الغربية قطعت مصر علاقاتها الدبلوماسية مع الأردن وفي آب 1973 عُينت رئيسا للديوان الملكي للمرة الأولى وفي 29 آب/ أغسطس وصل عمان اللواء مصطفى طلاس، وزير الدفاع السوري، حاملا لجلالة المرحوم رسالة مشتركة من الرئيسين: السوري والمصري. وكانت رسالة ودية جوهرها نية الدولتين لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الأردن، وبعد بضعة أيام جاءت دعوة لسيدنا لمقابلة السادات في الإسكندرية، وذهبت بمعيته مع دولة زيد الرفاعي رئيس الوزراء، وبعد المقابلة عدنا إلى عمان.
وفي الطائرة سأل دولة زيد الرفاعي جلالة المرحوم عن اللقاء الذي تم رأساً لرأس، فأخبرنا سيدنا بأن الرئيس السادات قال له: إن إسرائيل تعد هجوماً على سورية، وأن بعض قواتها قد تعبر للأراضي السورية من خلال أراضي الأردن في الشمال، وطلب من جلالته أن يحتاط لهذا الاحتمال بتحصين تلك المنطقة لصد تلك القوات المعتدية. تناقشنا حول إمكانية حدوث ذلك وسلامة التقدير المصري والسوري، وفي 10 أيلول وجّه الرئيسان السادات والأسد دعوة مشتركة لجلالة سيدنا للاجتماع بهما في القاهرة، سافر بمعية جلالته دولة زيد رفاعي، والفريق محمد رسول الكيلاني مدير المخابرات آنذاك، وأنا رئيس الديوان، عقد الزعماء الثلاثة اجتماعات عدّة من 10-12 أيلول وفي نهاية الاجتماعات صدر بيان مشترك جاء فيه " أنه في هذا اللقاء تم بحث جميع القضايا المتعلقة بين البلدان الثلاثة وجميع القضايا والتقديرات المتعلقة بمعركة المصير"، وفي السادس من تشرين الأول/ أكتوبر أعلن عن الهجوم الكبير المفاجئ للجيش المصري والجيش السوري، حيث ذكر أن طلائع الجيش المصري عبرت قناة السويس، وأن الجيش السوري اندفع نحو عمق هضبة الجولان، أثار الخبر في سائر الشعوب العربية الفرح والأمل بالنصر. فوراً بعد إعلان الهجومين السوري والمصري، حضر سيدنا للديوان، وكذلك دولة زيد الرفاعي، والمرحوم عامر خماش، ومحمد رسول، وأذكر أن تعابير وجه سيدنا كانت مزيجاً من السعادة والقلق ، بدأنا نناقش الوضع الناشئ، وكان توجهنا يميل الى عدم التورط هذه المرة؛ لأن الأردن بالنسبة لإسرائيل هدف صهيوني استراتيجي، ولأن الأردن بعد احتلال الضفة الغربية بلا عمق، ولذلك يخشى لو أطلقنا النار أن توجه إسرائيل جزءاً من قواتها للأردن، وبعد أن تنهي المهمة ستتوجه من جديد على الجبهتين المصرية والسورية، ونحن قبل هذا وذاك غير مستعدين، ولابد أن إخواننا في مصر وسورية استعدوا تماما لشن هذه الحرب المفاجئة.كانت الحيرة واضحة.
لكن الحيرة التي كنا فيها تطورت إلى أزمة حينما استمعنا الى رؤية جلالته بإشارته الى عدد من الأبعاد التي تجعل من موقفنا محرجا وصعباً، فالأردن له أرض محتلة، شأنه في ذلك شأن مصر وسورية، فكيف سنتصرف بعد أن علِم الشعب الأردني وفرح كسائر الشعب العربي بالهجوم والنصر الميداني الذي تحقق على الجبهتين المصرية والسورية؟ ألا ينعش ذلك أمله بتحرير الضفة الغربية ويتوقع سرعة انضمامنا لهذه الحرب؟ وماذا ستكون ردّات فعله إذا لم نشارك. هذه كانت جوهر الأزمة بعد أن انتهينا من طرح آرائنا. أمر سيدنا بالتوجه للقيادة العسكرية؛ فقد اجتمع مع كبار الضباط في القيادة، واستمع منهم أولاً عن الموقف العسكري حتى الآن على الجبهتين المصرية والسورية، وعن تحليلهم وتقديرهم للوضع العسكري وتطورات المعركة المحتملة، واستمع إلى آرائهم بالنسبة لموقفنا، واستمع منهم إلى رأيين، كان واحداً متحمساً وارتأى المشاركة، والأكثرية كانت مع التريث. وانتهت الجلسة بعدم اتخاذ قرار بل بتوجيهات من جلالة سيدنا للقيادة للقيام بنشر قواتنا على الجبهة الشمالية والأغوار لامتصاص جزء من القوات الإسرائيلية، وتحسباً لأي احتمال يأتي به المستقبل. وفي اليوم التالي، قام سيدنا بتفقد القطعات والوحدات التي يفترض أنها انتشرت حسب توجيهاته بما يتناسب مع تطورات المعركة. في 8/10 اجتمعنا في مكتب جلالة المرحوم في القيادة: سيدنا ورئيس الوزراء ومدير المخابرات ومستشار جلالته العسكري اللواء المرحوم عامر خماش، وكان الانطباع السائد بالأمس بأنه إذا تقدم الجيشان السوري والمصري قد تنشأ الفرصة التي تسمح لنا بدفع قواتنا للضفة الغربية، أما اليوم فكان المزاج السائد تفاؤلاً مشوباً بالقلق، فالقوات السورية بالأمس 7/10/73 لم تتمكن من التقدم أكثر مما تقدمته في اندفاعتها الأولى 6/10.
وفي مساء هذا اليوم، وصل إلى عمان قادماً من القاهرة دولة المرحوم عبد المنعم الرفاعي يحمل رسالة من أنور السادات لجلالة سيدنا، وكان مضمون الرسالة:
- ألا يدخل الأردن المعركة الآن
- القوات المصرية تتكفل بإنهاك قوة العدو
- يتوقع أن يتم السوريون تحرير الجولان
- حينئذ تدخل القوات الأردنية الضفة الغربية وهي منتعشة.
- أما إذا دخل الأردن الآن؛ فإن إسرائيل قد تحتل الأردن
وفي الليلة نفسها؛ اتصل مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري برئيس الأركان الأردني، وقال له: إن هنالك متسعاً لفرقة أردنية على الجبهة السورية، وكانت رسالة استغاثة مهذبة.
وتلقى سيدنا في الوقت نفسه برقية من سفارتنا بدمشق يذكر فيها القائم بالأعمال أنه أستُدعي من قِبل الرئيس الأسد الذي طلب منه نقل رسالة لجلالته، أهم ما تضمنته الطلب من القوات الأردنية تحرير الضفة الغربية، وواضح من الرسالة أن سورية بحاجة إلى تخفيف الضغط الإسرائيلي عليها بفتح الجبهة الأردنية.
استاء سيدنا من المفارقات الواضحة، فبينما ينصح السادات بعدم دخول المعركة، سورية تطلب منا دخولها، بالإضافة إلى أن القوات السورية تبلغ ثلاثة أضعاف القوات الأردنية، وجبهتها تبلغ 81 كم، مقابل 450 كيلومترا من الجبهة الأردنية، وبعد 48 ساعة من هجومها لم تتقدم أبعد من الذي تقدمته في اندفاعتها الأولى.
في ضوء ذلك، أعدّ سيدنا رسالة قاسية لإرسالها للرئيس الأسد. وأمر سيدنا بإرسال وفد عسكري للاتصال بنظرائهم في سورية للإطلاع على الوضع عن كثب. كان رأي الرئيس زيد الرفاعي ألا ترسل الرسالة مكتوبة ويحمل مضمونها لسورية الوفد العسكري، وهو يشرح وجهة نظرنا.
وافقت الرئيس كما وافق عبدالمنعم على ذلك ، واقترحت أن ينقل مضمونها اللواء عامر خماش، فوافق سيدنا على الاقتراح.
وفي مساء 12/10/71 اتخذ الملك قراره بإيفاد لواء مدرع أردني بقيادة الزعيم خالد هجهوج لصد الهجوم المعاكس الإسرائيلي الذي بدأ في إعادة القوات الإسرائيلية للأراضي السورية التي فقدتها لدى الاندفاع الأولي للجيش السوري. ثم انضمت القوات الأردنية المدرعة إلى جانب القوات السورية في جبهة الجولان، والتحقت بهذه القوات فيما بعد قوة عراقية مسلحة وأخرى سعودية جاءت جميعها للدفاع عن سورية.
كانت هذه الخطوة عنواناً بالغاً لحكمة سيدنا القيادية، إذ بالمشاركة العسكرية على الجبهة السورية حُلّت الأزمة. وأكثر من ذلك لا يستطيع أحد أن يدّعي أن الأردن تخاذل في معركة المصير كما سميت، كما نكون قد جنبنا الأردن أن يكون هدفاً مباشراً لإسرائيل . الأردن دولة محاربة في هذه الحرب، وأصبح ينطبق عليها في حالة وقف إطلاق النار ما ينطبق على مصر وسورية في أي اتفاقية سلام ستعقد.
(مع الأسف رفضت إسرائيل قبول هذه الحجة عام 1974 حينما بدأت بواسطة هنري كيسنجر تنفيذ اتفاقيات فك الاشتباك مع مصر وسورية.)
كان عذرها في ذلك، كما نقله كيسنجر لرئيس الوزراء زيد الرفاعي، بأنه صحيح أن الأردن كان إحدى الدول المتحاربة، لكنه لم يفتح جبهة من أراضيه.
الأزمة الثالثة:
زيارة السادات للقدس والصلح المنفرد
في 9/11/1977 أعلن المرحوم السادات في خطاب أمام مجلس الشعب المصري عن استعداده لمواجهة زعماء إسرائيل ومناقشتهم في الكنيست. استجابت إسرائيل لعرضه، ووجهت له دعوة للقيام بزيارة رسمية لها. وفي 20/11 وكانت عشية عيد الأضحى، لبّى الرئيس السادات الدعوة وذهب للقدس. دُهش العرب جميعاً وأولهم جلالة المرحوم من هذه الخطوة. طرح الرئيس السادات في خطابه في الكنيست، وفي لقاءاته مع مختلف القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية رغبة مصر والعرب في السلام، وأنه يدعو إسرائيل للتجاوب مع هذه الدعوة. لم يكن رد الفعل العربي الرسمي واحداً بينما استنكرته معظم الدول، أيدته دول أخرى.
وجد سيدنا نفسه في حيرة، واختار جلالته بعد أخذ و ردّ مع كبار مستشاريه إصدار بيان متوازن تضمّن دهشة الأردن من الزيارة ، وشجب في الوقت نفسه الانفراد. ودعا زملاءه القادة العرب إلى معالجة المشكلة وعدم توسيع شقة الخلاف.
وبعد عودته إلى مصر، بادر الرئيس السادات إلى توجيه الدعوة للأطراف العربية المعنية بمؤتمر جنيف وهي الأردن وسورية ومنظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل إلى عقد اجتماع في 3/12/1977 في القاهرة.
ولمّا لم تستجب الأطراف العربية لدعوته، فقد عقد السادات مباحثات بين الوفدين المصري والإسرائيلي الذي لبّى الدعوة. واكتفى الأردن بوصف خطوة السادات بالخطوة الجريئة التي تستهدف إبراز إيجابية الموقف العربي. أما عن تلبية الدعوة؛ فقد أعلن الأردن أن الحكومة الأردنية على استعداد للمشاركة إذا حضرت الاجتماع كل الأطراف العربية المعنية، وذلك في خطاب له في 28/11/1977. لاحظوا كيف أن جلالته أخذ الجزء الإيجابي من وجهة نظر دولية من تصرف السادات، وهو إبراز إيجابية الموقف العربي ، وفي الوقت نفسه ربط المشاركة بإجماع الأطراف المعنية جميعها.
أين الأزمة في كل هذا؟
بالنسبة لنا في الأردن وجلالة المرحوم الذي كان متيقّناً أن الأردن جزء من المشروع الإسرائيلي التوسعي، فقد كنا نخشى أن الدولة العربية الكبرى؛ أي مصر الساعية لإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل ربما في سبيل تحقيق هدفها خلال الانفراد أن تتفق مع إسرائيل على حلول تكون على حساب المصلحة الوطنية الأردنية. ومن جهة أخرى؛ فإن حضور الأردن بدون سورية ومنظمة التحرير سيخلق لها مشكلات عدة تشمل أعمالاً تخريبية وحرباً نفسية بإعلام عربي اعتاد على شيطنة الأردن إعلامياً منذ أيلول 1970. ولذلك اختار الأردن منذ البدء أن يتبنى موقف التوازن الذي عبّر عنه المرحوم بوضوح في خطابه في 28/11/1977 حينما قال إن مبادرة الرئيس السادات الانفرادية لا يجوز أن تتحول إلى سبب في إضعاف القضية، وأن من الجدير عربياً ألا ننسى دور مصر في نهضة العرب ووقوفها طوال 30 عاماً في مواجهة عدوان إسرائيل، كما لا يجوز تبادل نعوت الخيانة.
أما نتيجة المباحثات المصرية الإسرائيلية؛ فكانت كاشفة للسياسة الإسرائيلية التوسعية وبخاصة في الضفة الغربية، قد عرض بيغن على السادات رفضه لفكرة إنشاء كيان فلسطيني، لأنه يعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين أراضي إسرائيلية. ولذلك فإنه يقترح أن يمنح المواطنون فيهما حُكماً ذاتياً تحت إدارة مدنية بدل الإدارة العسكرية الحالية. رفض السادات الخطة. لكنه قرر مع بيغن مواصلة المباحثات من خلال لجنة مشتركة.
وفي 17/1/1978 صرّح بيغن رئيس وزراء إسرائيل الليكودي"أنه لا سلام إذا عادت إسرائيل إلى حدود 5 حزيران 1967 أو أعيدت تجزئة القدس. ووصف طلب مصر بانسحاب إسرائيل من القدس بأنه يتّسم بالوقاحة".
في ضوء هذا التصريح، سحب الرئيس السادات الوفد المصري المفاوض من القدس.
كانت الإدارة الأمريكية برئاسة كارتر تتابع الوضع عن كثب، وفي ضوء سحب الرئيس السادات للوفد المصري المفاوض وتصريحات بيغن، انبرى لإنقاذ الموقف بتقريب وجهات النظر، ودعا الرئيسين السادات وبيغن إلى إجراء مباحثات بينهما تحت إشراف الولايات المتحدة في كامب ديفيد، ومع إشرافه شخصياً. وأسفرت المباحثات التي تواصلت من 5-17 أيلول 1978 عن توقيع الجانبين على وثيقتين أطلق عليهما اسم "اتفاقات كامب ديفيد".
حملت الوثيقة الأولى إسم (إطار السلام في الشرق الأوسط) وجاء في هذه الوثيقة أن السلام عقد بين مصر وإسرائيل، وأن الدول العربية الأخرى مدعوة للانضمام إليه، وأن على مصر وإسرائيل والأردن وممثلي الشعب الفلسطيني أن يدخلوا في مفاوضات لحل المشكلة الفلسطينية،على أن تكون هناك فترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات يتم خلالها انتقال الحكم من السلطات العسكرية الإسرائيلية إلى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الذين سيتمتعون بحكم ذاتي. مع احتفاظ إسرائيل بوجود عسكري في الضفة والقطاع. أما الوثيقة الثانية؛ فتناولت السلام المصري الإسرائيلي.
وبصدور هاتين الوثيقتين تطورت أزمة الانفراد المصري إلى أزمة أردنية جديدة مع الولايات المتحدة. ففي 20-21 أيلول زار وزير الخارجية الأمريكي سايروس فانس عمان، وقابل جلالة المرحوم بوجود المرحوم عبدالحميد شرف رئيس الديوان الملكي، وسلمه الوثيقتين وحثّه على اللحاق بالركب.
بعد سفر فانس، ترأس جلالة المرحوم اجتماعاً حضره رئيس الوزراء مضر بدران؛ والمرحوم عبدالحميد شرف رئيس الديوان؛ وأنا. وطرح جلالته خلاصة مقابلتة مع فانس، وبدأنا نناقش ما ورد في الوثيقة الأولى التي تهمنا لنقرّر. أسفر النقاش عن رفضنا الذهاب إلى السلام وفق ما جاء في تلك الوثيقة وجلالته الذي يرى الأمور بمنظار آخر يتعلق بمخالفة طلب الرئيس الأمريكي طرح الموضوع من زاوية ما هو العقاب المحتمل، وهل نقدر عليه وكيف نواجهه. هكذا كانت الأزمة الجديدة. وبعد تبادل الأفكار اتفقنا أن نتريث في الرد، وفي الوقت نفسه يستطلع جلالته موقف الدول النفطية الشقيقة التي تساعدنا مالياً فيما إذا حجبت الولايات المتحدة معونتها المالية عن الأردن. هل ستعوضنا؟.
أما مسألة شراء الوقت، فاتفقنا أن يوجه سيدنا رسالة للرئيس كارتر يقول فيها إن ما جاء في الوثيقة مهم ويستحق الدراسة، وحينما درسناه تبيّن لنا أن هناك نقاط غامضة تحتاج إلى توضيح. وذكرنا في الرسالة تلك النقاط الغامضة وعددها ثلاث عشرة، وأرسلت الرسالة الى واشنطن، توقعنا أن يكون الوقت الذي ستأخذه واشنطن للرد على رسالة سيدنا كافيا لقيام سيدنا باستطلاع موقف الدول النفطية الشقيقة.
جاءت أجوبة الملوك والأمراء الخليجيين إيجابية، الأمر الذي طمأننا، وبعد ذلك بأسبوع عاد وزير الخارجية سايروس فانس بالأجوبة عن الأسئلة الثلاث عشرة ، واختار سيدنا أن يجعل اللقاء بين فانس وفريقه من الخارجية المعنيين بالشرق الأوسط مع الحكومة، وعقد اجتماع في رئاسة الوزراء بحضور رئيس الوزراء مضر بدران؛ والمرحوم الشريف عبدالحميد شرف؛ والمرحوم وزير الدولة للشؤون الخارجية حسن ابراهيم – اطّلع المسؤولون الأردنيون الثلاثة على الردود، وباعتبار أن موقفنا كان قد اُتخذ سلفاً، فدار الحوار بين الوفد الأمريكي والمسؤولين الأردنيين حول عدم قناعة الأردنيين بأن هذه الوثيقة والرد الأمريكي على ما أسميناه غموضاً ستصنع سلاماً حقيقياً. وهكذا انتهينا من الأزمة دون خوف من النتائج.
الأزمة الرابعة:
محاولة إبطال مفعول مقصد هنري كسنجر من "المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد"
في 10/1/1984 جرى تغيير حكومي جاء بموجبه دولة أحمد عبيدات رئيساً للوزراء ونقلت شخصياً في 14/1/1984 للديوان الملكي بمنصب وزيرا للبلاط، كما عُين معالي مروان القاسم رئيساً للديوان الملكي خلال الشهر الأول من عملي قريباً من جلالة المرحوم، ومن خلال التداول السياسي معه، تبيّن لي أن ما يشغل جلالته ثلاث قضايا قومية: الأولى: مصالحة الرئيسين البعثيين المرحومين صدام حسين وحافظ الأسد. والثانية: إعادة مصر مبارك للحظيرة العربية والثالثة: النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية.
ما يهمني في هذا الأمر هو قلق سيدنا المتزايد من تسارع الاستيطان، وبخاصة عند مجيء بيغن رئيساً لوزراء إسرائيل، الذي نقل تركيز الاستيطان الى محافظة نابلس مخالفاً بذلك مشروع إيجئال آلون وزير حكومة حزب العمل السابقة التي ركزت على محافظة الخليل وضواحي القدس.
جلالة المرحوم الذي كان واعياً تماماً على المشروع الصهيوني الذي يجعل من الأردن مشروع التوسع، رأى في توسّع حزب الليكود بالاستيطان لسائر الضفة الغربية تهديداً للدولة الاردنية اذا استمر الحال على ما هو عليه؛ أي " حالة اللاحرب واللاسلم" وهو المصطلح اذي أطلقه سيدنا على واقع الحال. بدأ هذا الخوف يتشكل في ذهنه بشكل جاد حينما رفضت إسرائيل وكسينجر إدراج الأردن مع مصر وسورية عام 1974 بنهج فك الاشتباك؛ بحجة أن الأردن الذي حارب في 1973 في الجبهة السورية لا يمكن اعتباره دولة محاربة× لأنه لم يفتح جبهة من أراضيه.
وحينما اتخذ العرب " قرار اعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد " في قمة الرباط 26-29 أكتوبر 1974، قرأناه في الأردن قراءة سليمة واعتبرناه مكيدة دبلوماسية هدفها شراء الوقت لإسرائيل لمواصلة استيطان الضفة الغربية، وذلك بتحويل الضفة الغربية كما هي موصوفة في قرار 242 من أرض محتلة الى أرض متنازع عليها بين الأردن ومنظمة التحرير .
وفي ضوء ذلك، قرّر جلالته وضع خطة لإبطال مقصد كيسنجر صاحب فكرة " الممثل الشرعي الوحيد " بالاتفاق مع المنظمة على مستقبل الضفة الغربية دون التراجع عن موافقة الأردن عن الاعتراف بالمنظمة الممثل الشرعي الوحيد، وشرعنا في تطبيق الخطة على الشكل التالي:
أولاً: استضاف الأردن المؤتمر الوطني الفلسطيني في عمان في 22/11/1984، وفي كلمته الافتتاحية للمؤتمر اقترح جلالته بأن يتقدم الجانبان الأردني والفلسطيني بمبادرة أردنية-فلسطينية على أساس المبادئ التالية :
1- التمسك بقرار مجلس الأمن 242 ( وذلك للتأكيد على أن الضفة الغربية المحتلة أرض محتلة وليست أرضاً متنازعاً عليها).
2- الأرض مقابل السلام.
3- إجراء المفاوضات من خلال مؤتمر دولي تحضره المنظمة على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى.
ثانياً : قرّر جلالته أن نمضي قُدماً أولاً بالحصول على مباركة الدول العربية، وثانياً أن نثبت ذلك عملياً للعالم بإرسال وفد مشترك أردني – فلسطيني لعدد من الدول منها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ، وفي أيار/ مايو 1985 قام المرحوم بزيارة رسمية لواشنطن، حيث عقد محادثات مع الرئيس ريغان أكد له خلالها أن الأردن والمنظمة عازمان على التفاوض مع إسرائيل للوصول إلى سلام عادل ودائم على أساس قرارات مجلس الأمن 242 و338. وبعد الزيارة طلب سيدنا من عرفات تزويده بأسماء الفلسطينيين الذين سيشاركون في الوفد الأردني الفلسطيني المشترك، شريطة ألا يكونوا ممن عُرفوا بالقيام بأعمال عسكرية ضد إسرائيل. أرسلت أسماء سبعة أشخاص لواشنطن. ولكن اللوبي الصهيوني احتجّ على مشاركة فلسطين من أعضاء المنظمة، فتراجعت الإدارة الأمريكية عن موقفها الذي عبّرت عنه في زيارة سيدنا في أيام. وفي آب/ أغسطس من العام نفسه، استأنفت الحكومة الأردنية المفاوضات مع عرفات، وأكّد عرفات استعداد المنظمة لقبول قراري 242 و 338. وأبلغنا الإدارة الأمريكية بذلك، وجاء الرد مخيباً للآمال بأنه ليس من الممكن عقد اللقاء مع الوفد المشترك.
وقُبيل ذلك اعتذرت موسكو هي الأخرى عن عدم استقبال الوفد المشترك، وهكذا بدأنا نرى في محاولتنا الجادة للسلام أزمة تزداد تعقيداً في المراوحة بين قبول الأطراف وتراجعهم. وفي محاولة أخيرة لتجاوز الأزمة بينما كان جلالة المرحوم في لندن في كانون الثاني/ يناير 1986 للعلاج التقى بوفد أمريكي قدِم من واشنطن ليخبره بأن الإدارة توافق على دعوة المنظمة للمشاركة في مؤتمر دولي إذا هي أعلنت قبولها لقرار 242 واستعدادها للتفاوض مع إسرائيل وتخلّت عن الإرهاب.
في 26/1/1986 جاء بعد عودة سيدنا من لندن المرحوم عرفات على رأس وفد فلسطيني، ونقل له سيدنا الموقف الأمريكي الأخير، لكن عرفات هذه المرة رفض الاعتراف بقرار 242 (المشكلة أن عرفات ظل يعتبر جلالة المرحوم منافساً وليس شريكاً له بالرغم من اتفاقية شباط التي وقّعها جلالة الملك لمنح أهل الضفة الغربية حق تقرير المصير والقبول بدولة كونفدرالية بين الأردن وفلسطين. كان يخشى أن الأمور اذا وصلت مرحلة انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية أن الحسين سيعود اليها ويتنكر لكل التزاماته في الاتفاقية بينهما). كما تعلمون الفرق بين الشراكة والمنافسة كبير. الشراكة تعني الثقة المتبادلة والتعاون. أما المنافسة فتعني عدم الثقة والتسابق على نيل المكافأة.
(إقرأ من ص 910 – ص 920 في كتابي يوميات عدنان أو عودة) بعد رفض أبو عمار قبول 242، وصل جهد جلالة المرحوم الذي استمر أكثر من عام لإنقاذ الضفة الغربية إلى نهايته، وأمرني جلالته في 3/2/1986 أن أكتب خطاباً شاملاً عن جهودنا لإنقاذ الضفة الغربية، ولماذا فشلنا، وفي 19/2/1986 ألقى المرحوم الخطاب الذي كان بمثابة إعلان طلاق مع منظمة التحرير.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، وشاركت فيها كل قطاعات الشعب الفلسطيني، وكل فئات الأعمار: رجالاً ونساءً دون استخدام السلاح. وهزّت الكيان الصهيوني بمعنى الكلمة لدرجة استخدامه وسائل العنف ضد المدنيين غير المسلحين: رجالاً ونساء وأطفالاً، وكان يعتقل منهم العشرات. كانت الانتفاضة أشجع وأشرف شكل من أشكال مقاومة الاحتلال، غريبة في أدواتها ومميزة فيمن شارك فيها، ومؤثرة في نتائجها لدرجة أن الصحافة الأجنبية احتارت بترجمتها إلى لغاتها الأجنبية، فاضطرت أن تستخدم كلمة انتفاضة؛ لأنه لم يكن لها مثيل في تاريخ الثورات في العالم. وهكذا أضيفت انتفاضة لقواميس اللغات الأجنبية.
لم تفت فرصة الانتفاضة ومفاعيلها الدولية المرحوم أبوعمار، فتبناها باسم منظمة التحرير، ورحب القائمون على الانتفاضة بهذا الترابط. وفي 11/3/88 صدر عن الانتفاضة بيانها العاشر، داعياً الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال بأن يكثف الضغط على الاحتلال والمستوطنين وعلى الموظفين الأردنيين من سكان الضفة الغربية واعتبرهم متعاونين مع الأردن.
نتج عن هذا التحوّل في توجه الانتفاضة بأن تضع الأردن على الصعيد نفسه مع إسرائيل إلى قرار فك العلاقة القانونية والإدارية مع الضفة الغربية، وذلك في 28/7/1988. وبعد أقل من أربعة شهور على هذا القرار أعلن المرحوم أبو عمار في المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر المنعقد في الجزائر قيام دولة فلسطين وجاء في خطابه أن الدول تؤمن بتسوية المكشلات الدولية وفقاً لميثاق الام المتحدة وقراراتها وانها ترفض التهديد بالقوة أو العنف أو الارهاب، أي ان المرحوم عرفات وافق على الشرطين الأميركيين الذين رفضهما انثاء شراكته مع الأردن واعترف بهما بعد قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية لأن المنافس خرج من اللعبة.
الأزمة الخامسة:
الأزمة الاقتصادية الاجتماعية أو هبّة معان 1989
في مؤتمر القمة العربي التاسع الذي عقد في بغداد في أوائل تشرين الثاني 1978 بعد توقيع مصر لاتفاقيتي كامب ديفيد لبحث نتائج ذلك التحوّل الخطر في الموقف العربي من إسرائيل، تقرر من بين أمور أخرى إنشاء صندوق دعم عربي لدول المواجهة ومنظمة التحرير كانت حصة الأردن منه 1250 مليون دولار سنوياً ولمدة عشر سنوات.
وكانت الدول المتعهدة بالدفع: السعودية، الكويت، الإمارات العربية المتحدة، قطر، العراق، وليبيا والجزائر، تلقى الأردن في السنة الأولى 1979 من المساهمين من الدول العربية النفطية والخليجية والعراق كامل التزاماتهم، ومن الجزائر ثلث التزاماتها للسنة الأولى؛ لأنها قالت إنها لا تستطيع أن تدفع التزامها بالكامل مرة واحدة، وستدفعه على ثلاثة أقساط ودفعت القسط الأول.. أما ليبيا فلم تدفع فلساً واحد. وفي عام 1980 اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، وبسبب الحرب توقفت الدول الخليجية، ما عدا المملكة السعودية، بعد عام أو عامين عن الدفع بما في ذلك العراق. ولكن الأردن منذ السنة الأولى بعد قمة بغداد معتمداً على التزامات الدول العربية المانحة أخذ يضع مبلغ ألـ 1250 مليون دولار في الموازنة باعتبارها مبلغاً مضموناً وفي ضوئه يصوغ الميزانية السنوية، وبخاصة في ما يتعلق بشراء الأسلحة قناعة منه أن الدولة التي لم تدفع السنة ستدفع السنة المقبلة، لكن ذلك لم يحدث. وهكذا بدأت الديون تتراكم؛ لأنه كان على الحكومة أن تسدّد أثمان مشترياتها، فلجأت إلى الاقتراض الخارجي، وكادت تستنزف احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية. وبعد منتصف الثمانينات حوّل البنك المركزي سياسته من ثبات سعر الصرف مقابل حقوق السحب الخاصة وتجاوزها إلى إدارة سلسلة من العملات تعكس نمط التجارة الخارجية للأردن. تلا ذلك تعويم لسعر صرف الدينار عام 1988، ما أدّى إلى انخفاض سعر صرف الدينار مقابل الدولار الأمريكي حتى وصل 910 فلسات.
تتالت الضغوطات على الاقتصاد الأردني مع نهاية عقد الثمانينات، حيث فاقت نسبة الدين الخارجي (ألـ 200% من الناتج المحلي الإجمالي) وعجز الحساب الجاري إلى (14% من الناتج) وعجز الموازنة العامة إلى (23% من الناتج) بالإضافة إلى أزمة بنك البتراء. في شباط/ فبراير 1989 وقّع الأردن في بغداد على ميثاق (مجلس الاتحاد العربي) الذي ضم الأردن والعراق واليمن ومصر، كان ذلك في فترة الهدوء التي أعقبت نهاية الحرب العراقية الإيرانية وحينما كانت الدول الأربع تواجه صعوبات اقتصادية لذلك، كان الاقتصاد من أهم التحديات التي يواجهها الاتحاد، ولذلك نصّت الاتفاقية أن هدف المجلس تحقيق التنسيق والتعاون والتكامل والتضامن بين الدول الأعضاء، وتحقيق التكامل الاقتصادي تدريجياً بينها.
وفي 16 نيسان/ أبريل 1989 أعلنت الحكومة زيادة في أسعار الوقود و بعض المواد الأخرى. وحدث أن جلالة المرحوم بعد يوم من هذا القرار بدأ بزيارة رسمية للولايات المتحدة كانت مقررة سابقاً. وفي 18 نيسان؛ أي بعد يومين من مغادرة المرحوم عمان، انطلقت مظاهرات احتجاجية على هذا القرار في مدينة معان التي سُميّت في المصطلح السياسي الأردني (هبّة معان) وأخذت الاحتجاجات تتطور باعتداء المحتجين على المرافق العامة وتنتشر في المدن الأخرى في الجنوب ثم في الوسط. وكانت البرقيات تصل باستمرار لجلالة الملك فتنبئه على تطورات الاحتجاجات وما رافقها من حوادث. وبانتشارها وتطورات التعبير عنها بأعمال التخريب، بدأ القلق يدبّ في نفس جلالته، وتخيّلت وكنت أحد أعضاء الوفد المرافق أن جلالته يمزقه من الداخل خياران متناقضان: هل يقطع الزيارة ويعود لإنقاذ الوضع قبل تفاقمه؟ أو يواصل برنامج الزيارة؟ لكنه اختار الاستمرار في الزيارة. ومن معرفتي بشخص جلالته كنت متأكداً أن جلالته كان مطمئنا على الأردن والنظام ولكنه خشي أنه لو قطع الزيارة فإنه سيعطي الحليف الأمريكي صورة خاطئة عن النظام بأنه ضعيف ، وهي صورة من شأنها أن تفسد نظرة الحليف للأردن، وربما تؤثر سلباً في سياسته نحوه مستقبلاً . كان آخر عمل في برنامج زيارته الذهاب إلى بوسطن ليتسلم جلالته شهادة دكتوراه فخرية من الجامعة، وذلك يوم24/4/1989.
بعد تسلّمه شهادة الدكتوراه الفخرية، اتجهت الطائرة الملكية مساء إلى عمان. وعلى متن الطائرة وبعد تناول وجبة العشاء، طلب مني جلالة المرحوم أن أعدّ له خطاباً عن الوضع في الأردن. أعددت خلال الرحلة له خطاباً مناسباً ألقاه في 26/4 بعد وصولنا بيوم واحد. حينما وصلنا يوم 25 حضر من بغداد المرحوم صدام حسين تعبيراً عن تضامنه مع جلالته والأردن، وبمجرد وصول جلالته عمان، اتجه الوضع للهدوء، وفي اليوم التالي استمع جلالته بحضوري لإيجاز مفصل من سمو الأمير الحسن عن الأحداث. وبعد الإيجاز قرر جلالته تغيير الحكومة وتكليف المرحوم الشريف زيد بن شاكر رئيس الديوان بتشكيل الحكومة. وكانت هذه الخطوة هي الأولى في سيرورة إصلاح سياسي سأعود إليه بعد استكمال معالجة المشكلة الاقتصادية بتوجيه من جلالته، وفي ظل رئيس الحكومة المرحوم الشريف زيد بن شاكر عمل فريق الإصلاح المالي المشكّل من السيد باسل جردانة وزير المالية ، والدكتور زياد فريز وزير التخطيط، والمرحوم الدكتور سعيد النابلسي محافظ البنك المركزي لإنقاذ الدولة مما عبّرت عنه هبّة معان وذلك باتخاذ إجراءات تصحيحية حازمة لتغيير مسار الاقتصاد الوطني، حيث تم العمل على وضع العديد من البرامج الوطنية متوسطة الأجل خلال الفترة من (1989-1991) وتوجه آخر بعده (1992 – 1994) بالمشاركة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ما أعاد هيكلة الاقتصاد وحقق مزيداً من الاعتماد على الذات، وتنشيط دور القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني. وشرع الأردن عام 1994 بتكثيف جهود الإصلاح الاقتصادي من خلال برنامج تسهيل ممتدّ خلال فترتين الأولى (1994 – 1996) والثانية (1996 – 1998) مع الصندوق للحفاظ على معدلات النمو الاقتصادي بنسبة أعلى من 6% والحفاظ على مستويات مقبولة من التضخم وتحسين القطاع الخارجي.
وفي عام1995 تبنى البنك المركزي سياسة ربط سعر الصرف للدينار الأردني بالدولار الأمريكي محققاً بذلك هدف البنك الرئيس المتمثل بالحفاظ على الاستقرار النقدي واستقرار المستوى العام للأسعار، والمحافظة على جاذبية الدينار الأردني، وتوفير بيئة استثمارية جاذبة.
ولعل أحد المؤشرات على نجاح هذه السياسة هبوط نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي من عام1989- عام 1990 أي خلال عشر سنوات من بدء سياسة الإصلاح والتصحيح هبوطها من أعلى من 200%، عام 1989 إلى 115% عام 1999.
أعود الى النتيجة الثانية لهبّة معان، وهي العمل على الإصلاح السياسي من منطلق أن مجلس النواب ما عاد تمثيلياً؛ لأنه انتُخب في نيسان/ أبريل 1967 وأن من الضروري إشراك جيل جديد في العمل السياسي ، قرر المرحوم إجراء انتخابات نيابية . كلّف المرحوم زيد بن شاكر رئيس الديوان الملكي آنذاك بتشكيل حكومة جديدة وأمره بإجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة ، أُعلنت نتائج الانتخابات في 10/11/1989 وكان الناجحون يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الأردني ، كان منهم حزبيون لم يشاركوا في العمل السياسي منذ أربعة عقود، ومنهم مستقلون ومخضرمون وآخرون محدثون . وما زالت تلك الانتخابات محطة مشرقة في تاريخ الأردن السياسي يستحضرها الناس بنوع من الحنين.
- وفي حكومة مُضر بدران المعدّلة التي خلفت حكومة زيد بن شاكر 1986 والتي ضمت عدداً من الإخوان المسلمين والنواب وبدافع من قوة الاستمرار، بدأ سيدنا يفكر بالمضي للأمام نحو الديمقراطية وبدأ يفكر جدياً باستئناف التعددية السياسية المتعطلة منذ 1957 . كلفني بالاتصال بزعماء الأحزاب القومية واليسارية للتأكد من استعدادهم لاستئناف العمل الحزبي في ظل النظام الملكي الهاشمي . قمت بالمهمة وسُرّ من موافقتهم بعد أن اطلعته على نتيجة استطلاعي، فأمر بوضع ميثاق وطني يلتزم به الجميع وشكلت لجنة وطنية برئاسة دولة أحمد عبيدات من ستين عضواً وفي 9/4/1990 ، صدرت الإرادة الملكية لصياغة الميثاق الوطني، وضمت زعماء أحزاب يسارية وقومية وأعضاء من الإخوان المسلمين ومثقفين وصحفيين ومفكرين مستقلين .
- وعملت اللجنة على مدى تسعة شهور مُنهية صياغة الوثيقة التي فتحت الباب أمام العمل الحزبي الوطني الذي يشترط نشوء أحزاب برامجية .
وفي 9/1/1990 عُقد مؤتمرٌ وطني مثّل كل قطاعات الشعب حضره ما يزيد على 2000 رجل وامرأة ممثلين عن الأحزاب والنقابات والبلديات والجمعيات ورجال الفكر والصحافة وشيوخ ووجهاء المجتمعات المحلية ورجال الدين والجمعيات النسائية الخيرية. ألقى الملك كلمته مهنئاً شعبه بالميثاق الوطني، وصفّق الحضور بحماسة مانحين الميثاق شرعية الإجماع الوطني. وهكذا تحولت هبة معان من أزمة سياسية اقتصادية إلى منطلق إصلاح اقتصادي وسياسي بقيادة المرحوم الحسين.
الأزمة السادسة:
احتلال الجيش العراقي للكويت في 2/8/1990
بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في آب/ أغسطس 1988 بنحو ستة أشهر ساد فيها الهدوء والأمل بحقبة قادمة تتميز بالتنمية الاقتصادية والتعاون العربي، وقّع في بغداد اتفاقية التأسيس لمجلس التعاون العربي كل من: جلالة المرحوم الحسين؛ والمرحوم صدام حسين؛ والمرحوم علي عبدالله صالح؛ والرئيس حسني مبارك رؤساء الدول العربية الأربع: الأردن، والعراق، ومصر، واليمن. وكان الاقتصاد هو الركيزة لمجلس التعاون والعمل على تحقيق التكامل الاقتصادي تدريجياً. واختيرت عمان مقرّا لأمانة المجلس، أما رئاسته فكانت دورية بين الزعماء الأربعة.
وفي أوائل 1990 ظهرت على السطح مشكلة بين العراق والكويت حول حقل الرميلة النفطي على حدود البلدين حينما شكا العراق من أن الكويت تستخدم تكنولوجيا حديثة تمكنها من الحفر بشكل مائل تحت الأرض وتصل بواسطتها إلى النفط العراقي في حقل الرميلة.
وتحوّلت المشكلة إلى نزاع غذاه واقع الوضع المالي للعراق الخارج من الحرب، وفي الاتصالات بين العراق والكويت، قيل أن حجة الكويت كانت بأنها بنفط الرميلة إنما تسترد ديونها من العراق، أي أنها اعتبرت معوناتها للعراق أثناء الحرب ديوناً. وكان رد العراق على أن هذه الأموال كانت للدفاع عن دول الخليج، وأنه يطالب كل دول الخليج التي تبرعت له أثناء الحرب بمزيد من المال لاستكمال ما أنفقه العراق في الحرب دفاعاً عنهم.
وتحوّل النزاع الذي عرِف به جلالة المرحوم وعدد من الدول إلى نوع من المهاترات التي كانت تدفع باتجاه نزاعات مسلحة. فبادر جلالته للتدخل والقيام بدور وسيط الخير بين العراق والكويت. وفي 30/7/1990 طار جلالته إلى بغداد ورافقه رئيس الديوان الملكي المرحوم زيد بن شاكر وأنا. وفتح سيدنا موضوع خلاف صدام مع العراق للتعرف على حقيقة الموقف العراقي ليكمل وساطته مع الكويت، وكان ذلك بحضور المرحوم الشريف زيد وحضوري وحضور المرحوم طارق عزيز وطه ياسين رمضان، تحدث المرحوم صدام بألم وغضب عن موقف الكويت، وبيّن لسيدنا موقف الكويت ونظرة العراق لقضية المعونات التي اعتبرها أقل بكثير مما أنفقه لحماية عروبة الخليج. وفهمنا منه أن موقفه النهائي سيتبلور لدى عودة نائبه عزت إبراهيم الذي كان في جدّة يفاوض المرحوم الشيخ سعد الصباح ولي عهد الكويت.
التحق بنا في اليوم التالي 31/7/1990 دولة مضر بدران رئيس الوزراء وتوجهنا إلى مطار الكويت عند الظهيرة وبقينا في مبنى استضافة المطار حتى أنهى جلالتة محادثاته مع أمير الكويت في غرفة خاصة، وبعد انتهاء المحادثات عدنا إلى عمان، وأخبرنا سيدنا أن سمو أمير الكويت أبدى وجهة نظره، وأنه ينتظر هو الآخر عودة الشيخ سعد من جدة.
وفي صبيحة 2/8/1990 أي بعد عودتنا بيومين، استُدعيت للحضور إلى الديوان مبكّراً. كان جلالته قد سبق بحضوره رئيس الوزراء ورئيس الديوان. أخبرنا جلالته أن المرحوم الملك فهد أيقظه من نومه ليخبره أن القوات العراقية دخلت الأراضي الكويتية، فوجئ الجميع بالخبر، وقال جلالته إنه قدّر من غضب صدام أن أقصى ما يمكن أن يفعله في حالة فشل المفاوضات هو احتلال حقل الرميلة، أما دولة الكويت فتلك مصيبة.
وشرع جلالته بالعمل، فاتصل بصفته الرئيس الدوري لمجلس التعاون العربي في ذلك الوقت بالأعضاء واحداً واحداً. طلب المرحوم صدام، فجاءه الجواب أنه في غرفة العمليات ولا يستطيع أخذ المكالمة، ثم تلاه بالاتصال بالمرحوم علي عبدالله صالح الذي فوّض سيدنا بتمثيله في ما يراه من حلول بعد أن أوضح له سيدنا أنه سيعمل على إيجاد حل عربي لسدّ الطريق أمام التدخل الأجنبي، وأخيراً اتصل بالرئيس مبارك، وقال له إنه قادم للقاهرة لبحث الأمر معه، فرحّب وكانت القاهرة في ذلك الوقت تستضيف وزراء خارجية المؤتمر الإسلامي. طار سيدنا إلى القاهرة، وذهبنا بمعيته في مهمته القومية المتمثلة بحل المشكلة دبلوماسياً بين عضو في الاتحاد العربي ودولة شقيقة حتى يمنع أي تدخل أجنبي قد يزرع الفوضى والأحقاد في الإقليم في وقت بدأنا فيه كعرب نتنفس الصعداء بانتهاء الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثمان سنوات (وبقيّة القصة يمكن أن تقرأوها في الكتاب الأبيض الذي أصدره الديوان الملكي عن هذه الأزمة).
منذ البدء، عبّر جلالة المرحوم عن خشيته من التدخل الأجنبي عسكرياً، وبعد الاتصال بعدد من القادة العرب مباشرة في عواصمهم، لاحظ جلالته انقساماً ما في مواقفهم؛ فكان منهم من أيّد توجه جلالته نحو الحل العربي، ومنهم من وقف علناً مع الموقف الأمريكي، وهكذا لم يتمكن من جمعهم حول الحل العربي كمجموعة عربية ذات وزن، طبعاً باستثناء دول الخليج التي اعتبرت نفسها طرفاً ثانياً في النزاع ، وبالنسبة لجلالته أصبحت الأزمة كيف نتجنّب في الأردن هذه الحرب ونتائجها. أي الوقوف على الحياد في حالة وقوع حرب. ففي موقف الحياد كان لا يمكن للمرحوم صدام أن يلومنا بعد أن حاول سيدنا إقناعه بالانسحاب من الكويت ولم يستجب، ولا لدول الخليج أن يلومونا لأنهم كانوا يعرفون بصدق محاولات سيدنا لإقناع صدام بالانسحاب، ولا الولايات المتحدة التي اتصل برئيسها بوش واجتمع به في ولاية Mane ليقنعه بدعمه في التوصل إلى حل سلمي، ليكتشف بأن الولايات المتحدة كانت قد أخذت قرارها لإخراج القوات العراقية بالقوة العسكرية من الكويت. كما تأكد له الموقف الغربي بنيّته في ضرب العراق أثناء مقابلته لرئيسة الوزراء البريطانية السيدة ثاتشر.
وكنت مصاحباً لسيدنا في المقابلتين. إذ بعد محاولات سيدنا باتصاله بالعرب والولايات المتحدة وبريطانيا، تشكّلت الأزمة بوضوح أمام جلالة المرحوم، واتخذ قراره الحكيم بالوقوف على الحياد كما بيّنت. وكي يتأكد من نجاح هذا الموقف بعثني إلى بغداد يوم 31/12/1990 برسالة شفوية للمرحوم صدام. أما الرسالة فكانت عبارة عن جملة واحدة هي: "جلالة سيدنا يطلب من فخامة الرئيس ألا يستخدم الأجواء الأردنية إذا وقعت الحرب". استقبلني في مطار المثنى في بغداد المرحوم طارق عزيز، وذهبنا إلى المبنى البديل لمبنى رئاسة الوزراء الرسمية بسبب الاستعداد للهجوم العسكري المتوقع. قيل لي إن المرحوم صدام كان في القيادة العسكرية، فبلّغت الرسالة لرئيس الوزراء بحضور طارق عزيز، وعدت إلى عمان.
كان يخشى جلالته إذا وقعت الحرب أن يستخدم الطيران العراقي لضرب إسرائيل، وبالمقابل تقوم إسرائيل بالطيران في أجوائنا لضرب العراق. وفي هذه الحالة كان لا يمكنه أن يقبل لنفسه بمرور الطيارات الإسرائيلية من الأجواء الأردنية لضرب الجيش العراقي، إذ لابد من التعرض لها. وهكذا ينتهي موقف الحياد الذي اختاره، ولذلك قام بإبلاغ العراق أولاً. وكي يتأكد أن إسرائيل هي الأخرى لا تستخدم الأجواء الأردنية، قام بإيصال رسالته المشابهة للرسالة التي حملتها لبغداد ولكن بالقنوات الدبلوماسية بأن الأردن سيقف على الحياد، ومن أجل ذلك طلب من بغداد ألا تستخدم أجواءنا، ويطلب من إسرائيل ألا تفعل ذلك هي الأخرى، وهكذا كان، أي حافظ الأردن على حياديته، فلا المرحوم صدام يمكن أن يلومه ولا حلفاءنا الغربيين. ومع ذلك عاقبتنا الولايات المتحدة على موقف الحياد حينما أوقفت ضخ النفط عبر خط التابلاين الموصل إلى مصفاة البترول في الزرقاء. ففي عام 1989 كان الأردن يحصل على 85%من حاجاته النفطية من العراق، ويحصل على 15% من المملكة العربية السعودية عبر خط التابلاين وبقي الحال كذلك حتى اليوم مع خط التابلاين.
الأزمة السابعة:
في الثالث عشر من آذار/ مارس 1997 أطلق جندي أردني (أحمد الدقامسة) النار على فتيات إسرائيليات كنّ في رحلة مدرسية لمنطقة الباقورة شمال وادي الأردن. قُتلت سبع طالبات وجُرحت ستّ، قام جلالة المرحوم الغاضب مما حصل بزيارة أهل القتيلات وقدم تعازيه لهم، وصُوِّر هذا الحدث وظهر في مختلف وسائل الإعلام العالمية. لم يستوعب الأردنيون وعموم العرب أهمية البعد الإنساني في هذه المبادرة الملكية، وفي 25 أيلول/ سبتمبر؛ أي بعد نحو ستة أشهر، حاول رجال من الموساد الإسرائيلي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السيد خالد مشغل في أحد شوارع العاصمة. وقد وقع الحادث في اليوم نفسه الذي اجتمع فيه وفد إسرائيلي عسكري وآخر مدني مع جلالة المرحوم. الأمر الذي جعل المرحوم يستشيط غضباً. اكتشف الأطباء الأردنيون في مستشفى المدينة الطبية أن الموساد حقنوه بإبرة سامّة، وألا حل لإنقاذ حياته إلا بإحضار الترياق الذي يبطل أثر السم في جسم المصاب، تحرك المرحوم بسرعة، وطلب من الحكومة الإسرائيلية إرسال الترياق. وكان الأمن الأردني قد تمكن من إلقاء القبض على اثنين من الموساد الجناة. وضع المرحوم الحكومة الإسرائيلية أمام خيارين:
في حالة وفاة خالد مشعل سيكشف الأردن هوية العملاء الإسرائيليين، وقد ألقى القبض على اثنين منهم، وسيحاكمهما علناً، وسينفذ حكم الإعدام بحقهما، أو أن تُبادر الحكومة الإسرائيلية بالاعتراف بجريمتها وتقدم الاعتذار والترياق لإنقاذ حياة خالد مشغل. كان هناك سباق مع الزمن، حيث قرأ جلالته ردات الفعل الأولية للحكومة الإسرائيلية بأنها سياسة مماطلة. فشدّد على إسرائيل وهدّدها، إما معاهدة السلام أو حياة مشعل، فاستجابت حكومة إسرائيل بسرعة، وأرسلت مدير المخابرات الإسرائيلي إلى عمان ومعه الترياق المطلوب، وأنقذت حياة مشغل. وقبل تسليم عميلي الموساد، طلب الملك من إسرائيل إطلاق سراح المرحوم الشيخ أحمد ياسين فوافقت. كان سلاح المرحوم في هذا كله سلاح الإنسانية البتّار الذي اكتسبه من تعزيته لأهل الثكالى من حادثة الترياق، وشاهده العالم والذي أثر على الشعب الإسرائيلي، وعلى كل المنظمات الدولية الإنسانية، فلم يكن بإمكان نتنياهو أن يماطل حتى يموت مشعل ويفاوض بعدها على إطلاق سراح الجناة.
رحم الله الحسين.