ابداع المرأة العربية والصمود في مواجهة ثقافة الإقصاء
سارة طالب السهيل
01-04-2018 12:29 PM
تعد المرأة العربية في كل أحوالها الحياتية والعلمية والثقافية والابتكارية انموذجا مشرقا للإبداع في كل مناحي الحياة، فالإبداع والقدرة على الابتكار وايجاد الحلول للمشكلات والقدرة على التجديد والتحديث والتطور في المجتمع الانساني، ـ في تقديري ـ يشمل كل معطيات حياتنا، وقدرة المرأة العربية تجاوز التحديات وتخطي العقبات الاجتماعية والثقافية لإثبات ذاتها وجدارتها وقدراتها الفائقة على الصمود هو منتهى الابداع .
أن المرأة العربية مبدعة حتي وهي تلهم الشاعر قيثارة انغام قصائده، مبدعة وهي تتغنى في قصائدها بالحياة والحب والأمل في استعادة الأوطان لمجدها واستقرارها وأمانها، ومبدعة وهي تحلق بفضاءاتها وغموضها وسكونها ورقتها وشدتها وتمردها وحنانها فتصبح مصدرا للحكاية والرواية، ان المرأة هي شهرزاد القادرة على لجم شهريار مهما كانت قوته وعنفوان سلطانه.
ومن بديع صنع الله في المرأة العربية قدرتها على مواجهة التحديات واثبات الذات في مناخ ثقافي ذكوري ينتصر لعبقرية الرجل على حساب ابداع المرأة.
إن ابداع المرأة يشمل كل مناحي الحياة، فالمرأة مبدعة وهي تعول اسرتها بعد فقدان الزوج بالحرب والبطالة ، و مبدعة شامخة صامدة في القدس تحمي المقدسات من براثن العدو الاسرائيلي، وفي مصر تقدم ابنائها دفاعا عن الوطن من الارهاب، وفي العراق وسوريا واليمن تحملت بصمود لا مثيل له مرارة التقسيم الطائفي والفكر التكفيري للقاعدة والدواعش، وفقدت ابنها وزوجها وأبيها لكنها ظلت صامدة بل ومكافحة وراعية لابنائها الصغار. و في الاردن مربية مثابرة مكافحة من أجل المجتمع و الأبناء
إن القدرة على الصمود وابتكار وسائل للحياة والحفاظ على الزرع الخضر للحياة وهم الاطفال الصغار اليتامى من اكبر النماذج على الابداع الانساني للمرأة العربية.
ان الابداع قرين لحظة اختيار ومناخ حر ينطلق فيه الفكر والخيال الي فضاءات لا نهائية، ولا ينضج الى ابداع كما الثمار على الاشجار دونما بيئة ملائمة لنضجه، غير ان المرأة العربية عانت منذ فجر التاريخ أولا من الوأد، ثم من التضييق الاجتماعي والمناخ الخانق لحريتها تحت مظلة العيب الاجتماعي والموروث الثقافي الذي يجعل المرأة في مرتبة أدنى من الرجل عقليا وثقافيا وابداعيا.
ظلت المرأة العربية ولاتزال بنسب متفاوتة على اختلاف دولنا العربية محاصرة بنظرة دونية من الأساس أقصتها وهمشت دورها من جانب صناع القرار، بعد ان وضعت في تصنيفات أنثوية قاتلة تجعل من قدرة المرأة على الابداع قرين بصفات لا أخلاقية بهدف النيل من سمعتها وتطويق قدراتها على مواصلة الابداع والتميز.
أن شهادة الحق جاءت علي لسان المبدع والناقد المصري المتميز شعبان يوسف حينما اختار ان يشهد ويجلي الحقائق وهو يعري المجتمع الذكوري في اضطهاده للمرأة واهانته لها وتهميشه لها قديما وحديثا سواء من جانب الساسة او الكتاب والمفكرين أنفسهم، وذلك عبر كتابه الجريء بسؤال "لماذا تموت الكاتبات كمداً؟"
وصفحات هذا الكتاب تنتصر للمرأة عبر تناول اوضاع المرأة المبدعة منذ بداية القرن الماضي وحتى وقتنا الراهن، بدءا من قضية تحرير المرأة عند قاسم أمين وما ناله من هجوم.
بحث شعبان يوسف عن تلك الحقوق المهضومة مستشهدا بأسمائهن جميعا، ووجه اللوم لكتاب كبار عما فعلوه إرضاءا للسياسة مثل سلامة موسى ولطفي السيد وحتى عميد الأدب العربي طه حسين حين كتب مقالته الشهيرة " العابثات " إشارة منه إلى ما قامت به " درية شفيق" حين اعتصمت هي وبعض النساء الأخريات في مبنى نقابة الصحفيين بعد يوليو 1952.
وأثيرت أحداث كبيرة بسبب اشكالية ان الداعي إلى الحرية هو نفسه من يقف في وجه درية شفيق وأمثالها فكتب الكثيرون ضد طه حسين ومن حذا حذوه.
وكذلك الأمر عند سميرة موسى تلك العالمة التي لو قدر الزمان بقاءها لأتت بما لم تستطعه الأوائل، حيث ظلمت ظلما ولكن كتاباتها الثورية بجريدة " البلاغ الأسبوعي" وبثت في مقالاتها حبها لوطنها العظيم مصر ومحاربتها للإنجليز ومن عاونهم، بجانب مسرحيتها الرائعة "الفضيلة المضطهدة " تناولت فيها الوطن وهموم الوطن وما يجب أن يكون عليه.
ويلوم الكاتب المترجم عبد الغفار مكاوي لأنه لم يضمن كتابه " البلد البعيد " حيث ذكر العديد من الرواد في الفن والأدب مثل نجيب الريحاني ومحمود حسن إسماعيل ونجيب سرور، و لم يكتب عن المرأة في حراكها الثقافي والابداعي.
وهنا يقف المؤلف موقف المنصف من القامات النسائية الابداعية كاشفا مدى الاضطهاد الذي نالته المرأة خاصة إذا ما كانت قامة من القامات في الفكر مثل ملك حفني ناصف " باحثة البادية " التي خدعها زوجها، وكذلك عائشة التيمورية و" مي زيادة " التي كان اسمها ملء العين والبصر دون ان يلتف حولها كبار الساسة والكتاب والأدباء والمثقفين وانبروا جميعاً يكتبون في جمالها وأدبها ولكنهم جميعاً تركوها حين كانت في أمس الحاجة إليهم ولم يقف معها سوى أمين الريحاني، إلا إن الجميع تخلوا عنها حين بدأت كتاباتها تثير بعض القلاقل للساسة وتعبير رائع قاله المبدع شعبان يوسف عنها حيث تخلى عنها الجميع " وبدأت تموت أمام أعينهم ببطء أولئك الذين كانوا يحرقون البخور لجمالها ولأنوثتها الطاغية".
إن المبدعة العربية ، رغم تلك الأزمات ، وقفت صلبة قوية مدافعة عن حقها في حرية التعبير والابداع، وظهرت نوابغ في كل المجالات، حتى انتكست الاوضاع الاجتماعية الثقافية عقب ما سمي بالربيع العربي وركوب تيارات الاسلام السياسي المتشدد للمشهد الثقافي والاجتماعي خفت صوت المرأة نسبيا بعد الهجوم الضاري الذي شنته جماعات الاسلام السياسي على حقوق المرآة في العمل والابداع، والعمل على تشويه صورتها امام المجتمعات بالإيحاء انها علمانية تحارب الدين.
ان جماعات الاسلام السياسي تجاهلت حقيقة كيف كانت أمهات المؤمنين وعدد من كبار الصحابيات في صدر الإسلام من روَّاد الحركة العلميَّة النِّسائية كما امتدَّ عطاء المرأة المسلمة في المجال العلمي والتعليمي عبر العصور، فظهرت الفقيهة والمُحدِّثة والمفتية والطبيبة والشاعرة والناقدة الأدبية وعالمة الفلك والرياضيات.
فالمجتمع مهما كان محاطا بموروثات اجتماعية بالية، فان قدرة المرأة علي التحدي بالعمل والعلم والابداع كفيل بالاعتراف بقدراتها ولو مع مرور الزمن، لأن البقاء دائما للأقوى والاصدق والأنجح.
وفي تقديري، ان المرأة العربية مطالبة أكثر من أي وقت مضى للوقوف إلى جانب المبدعين الرجال من أجل التصدي لحالة الفوضى الثقافية التي تعاني منها اوطاننا العربية في اعقاب «الربيع العربي» وأن صمودها بجانب الرجل يشكل ملحمة كبري في استعادة أوطاننا لهويتها العربية الاصيلة والحفاظ عليها من الانقسام والتشظي الراهن.
وفي تصوري ، ان ما يجري من تدمير للثقافة العربية عبر تدمير المتاحف وسرقة كنوزها التراثية ومخطوطاتها كما جرى بالعراق وسوريا، كان فعلا استعماريا ممتدا للقضاء على الهوية، وان المرأة العربية كما أبدعت في معركة الصمود في مواجهة مشاهد القتل والدمار والنزوح، فهي الاجدر ، بالحفاظ على الهوية الثقافية العربية والذود عنها وهي معركة لو أدارتها المرأة العربية لحققت بطولات من الابداع سيسجلها التاريخ بأحرف من نور.
من اليوم وصاعدا، على المبدعة العربية ان تخوض بريشتها وانغامها واشعارها وقصصها ورواياتها وصورها السينمائية والدرامية، معركة هزيمة كل الافكار الشيطانية التي جلبها لنا أهل القاعدة وداعش واخوانهم، وواجب المرأة مقاومة ورفض كل النزاعات الطائفية المنتشرة في بلادنا والتي شوهت ثقافتنا المعاصرة.
إن التاريخ الثقافي العربي قديما وحديثا سجل صفحات مضيئة من ابداع المرأة من المحيط الى الخليج
في المقدمة منه ابداعات الشاعرة العراقية "نازك الملائكة" رائدة الشعر الحديث كشف عن ذلك كتابها (قضايا الشعر المعاصر) بأنها أول من نظم قصيدة الشعر الحر، وتجلى ذلك في قصيدتها الاشهر "الكوليرا " التي تنبئ عن ثقافة عميقة الجذور بالتراث والوطن والأنسان.
كما تتوالى صفحات المبدعات بالعراق ليسجل أسماء " قيثارة العراق الشاعرة الدكتورة "عاتكة الخزرجي"، والشاعرة الرومانسية، الدافئة بلقيس حميد حسن .
وفي مصر يسجل التاريخ المعاصر ابداع الاديبة الدكتورة "رضوى عاشور" خاصة في ميدان الرواية التاريخية، وتراوحت أعمالها النقدية المنشورة بالعربية والإنجليزية، بين الإنتاج النظري، وتمت ترجمة بعض أعمالها الإبداعية إلى الإنجليزية والإسبانية والإيطالية والإندونيسية.
ويتوالي ابداع المرأة المصري في تجربة الاديبة " سلوى بكر"، وأديبة الصحراء " ميرال الطحاوي " التي حققت شهرة واسعة منذ أولى رواياتها " الخباء " وحصدت عنها جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية ووصلت للقائمة القصيرة لقائمة بوكر.
وكذلك الراحلة " فتحية العسال "التي اهتمت بالقضايا الاجتماعية وقضايا المرأة بشكل خاص ، وكتبت 57 مسلسلًا .
وغيرهن كثيرات.
في الأردن حققت المرأة المبدعة انجازات أدبية يشار اليها بالبنان، كما في تجارب الشاعرات المتميزات أمينة العدوان ، ثريا محلس ، رفعة يونس، وسلوي السعيد .
وفي القصة ابدعت العديد من الاسماء الأردنية منهن: جميلة عمايرة، جواهر رفيعة، بسمة النسور، وفي الرواية حلقت أسماء كل من سميحة خريس، وليلي الأطرش، وسحر خليفة وغيرهن الكثير.
إن المرأة العربية تعرضت إلى اقصاء متعمد منذ فجر التاريخ، عكسته دراسات الباحثين في الشعر الجاهلي، حيث وجدوا، انه رغم عدم وجود حركة نشر وطباعة ووسائل اعلام في الزمن الجاهلي، الا انه التاريخ حفظ لنا مئات الدواويين الشعرية لكبار الشعراء في الجاهلية، في مقابل غيابا ملحوظا لدواوين المبدعات الشاعرات رغم غزارة انتاجهن، وهو ما أكده الباحثون من انه كان هناك اقصاء متعمدا وتهميشا بحق المرأة المبدعة في زمن الجاهلية بسبب سطوة المجتمع الذكوري .
فقد خلت عصور الأدب القديمة من دواوين شعرية للنساء إلا نادراً، كما هو الحال مع ديوان الخنساء بنت عمرو السلمية، وهو ما رصده كتاب “شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام” الذي جمعه وحققه الكاتب اللبناني بشير يمّوت عام 1939 ، في هذا الكتاب يكشف المؤلف أن الابداع النسوي مهضوم الحق مهيض الجناح قديماً وحديثاً، فما تكاد ترى ديواناً لشاعرة أو مجموعة لنابغة، إذ أهمل ذلك الأولون ومضى على آثارهم المتأخرون، والدليل أنك إذا تصفحت مختارات الشعراء كحماسة أبي تمام والبحتري وغيرهما من الأقدمين، أو مختارات البارودي وأمثاله من المتأخرين لا تجد فيها شعراً نسائياً إلا فيما ندر، كأن الدهر حكم على المرأة بالظلم في كل شيء حتى في الأدب والشعر.
ويرجع الكاتب الأسباب إلى التعمد والإهمال والنسيان فالقدماء لم ينظروا إلى شعر النساء بعين الإعجاب، بسبب ضعف شعر المرأة حفاظاً على حشمتها ووقارها، ومن ثم فمن الممكن أن يكون شعرها كثيراً ولكن ما روي منه قليل ومن ثم لم يصل إلينا منه شيء يذكر.
ويرصد الكاتب الشعر النسائي وابداعهن في كل أبواب الشعر المعروفة من مديح ورثاء وهجاء وغزل وحكمة واثارة وحماس ووصف طبيعي وأحياناً الغزل على قلته موجودة في بعض اشعارهن وأكد ان شعر الجاهليات يساير شعر كبار الشعراء في المتانة وصحة اللغة مثل شعر جليلة بنت مرّة أخت جساس بن مرّة والتي اشتهرت بالفصاحة والحكمة
ولبعض الشاعرات الجاهليات مواقف معروفة تاريخية في حسن الجوار وإغاثة الملهوف مثلما فعلت الشاعرة صفيّة بنت ثعلبة الشيبانية و,لقبها " الحجيجة" حين أعلنت إغاثتها لهند بنت النعمان
وعثر المؤلف على مواقف تربوية في شعر الجاهليات تحضّ على الشهامة والشجاعة وتغرس في نفوس الأبناء مثل هذه المكارم منها هي الشاعرة نفوسة بنت
ويصل المؤلف اللبناني الى حقيقة ان الشعر الخاص بالشاعرات العربيات يكاد يضاهي شعر أشهر رجال العرب من فطاحل الشعراء، من حيث جودة السبك وصحة اللغة ومتانة البنيان، ومن حيث الأفكار والتناول وتنوع الموضوعات وطريقة عرضها وطرحها للقضايا المختلفة.
وهناك من الحكم لنساء العرب اللائي عشن في البادية تضاهي ما جاء به أعظم فلاسفة العالم على مر العصور، فيما هي لم تغادر تلك الصحراء، كما أنك تجد بعض الموضوعات التي لا تخطر لك ببال، مثل قضية أثر الجوع والفقر في النفس والإشفاق على الآخر المحتاج، وقضية زواج الفتيات الصغيرات من شيوخ كبار في السن، وأثر ذلك على سعادة المرأة وإحساسها أنها تحرم من أبسط حقوقها، وعديدة هي القضايا التي كتبتها الشاعرات العربيات.
يتوصل الابداع النسوي في كل الدول العربية وحلقّت النساء العربيات في فضاء التحدي لتُقدم إنجازات حفرت أسماءهن في سجلات النور، كما في تجربة فريق الأوركسترا للكفيفات الذي أبهر العالم بحفلاته حول العالم وحصد الكثير من الجوائز، منها درع الجمعية النسائية الاجتماعية الثقافية الكويتية، ودرع المخيم العربي السادس للمكفوفين بالإسكندرية، ودرع الإمارات العربية المتحدة، وكأس التقدم الألماني.
كلمة أخيرة
يظل صمود المرأة وقدرتها على التحدي والنجاح أكبر رادع لقوى التخلف والظلام، وأن الحق لابد وان يعرف طريقه لكل من يبدع بصدق وأخلاص وأكبر دليل على ذلك اختيار الدكتورة إيناس عبد الدايم، كأول وزيرة للثقافة في مصر
وجاء هذا الاختيار الموفق بعد نجاحها الكبير في إدارة دار الاوبرا المصرية منذ توليها رئاسة دار الاوبرا المصرية لتكون ثاني سيدة تتولى هذا المنصب بعد الدكتورة رتيبة الحفني.