نظرةٌ منها كانت كفيلة بإيصال الرّسالة المطلوبة إلى أبنائها... لم يكن أحدُهم ليجرؤ على إثارةِ استيائها أو غضبها، في الوقتِ الذي مثّلت فيه لهم المرجعَ الآمنَ الحكيمَ المُطمئن لهم فيما يواجهون من مشاكلَ يوميّة.
سيرتُها الوظيفيّة حفلت بالإنجازات المتتالية في مسيرةٍ حفلت بالصّعوبات والعراقيل والتّحدّيات، فكانت محطّ إعجابِ العديدين حتى عند أولئك الذين اختلفوا معها، إذ كانوا يُدركون في قرارة أنفسِهم أنّهم أمام امراةٍ استثنائيّة تستحقُّ الانبهار !
تقدّمَ بها العمرُقليلاً، فشاءت التّقاعدَ حتى تستمتعَ بالهدوء في مرحلة العمر الذّهبيّة، وكي تتفرّغَ لأحبّائها من الأبناءِ والأحفاد بعد تلك الرّحلة المُضنيّة من صناعة النّجاح...فكانوا يزورونها تباعاً في الأمسيات ليستمتعوا بالتّحلّقِ حولها، وسماعِ حكاياتها الشّائقة، وتعليقاتِها الذّكيّة الطّريفة، كانت حاضرة النّكتة سريعة البديهة لا يملُّ الذي يجالسُها من حضورِها الجميل، وشخصيّتها الجذّابة الآسرة !
وهكذا إلى أن بدأوا يُلاحظون بعضَ التّشتتِ في كلامَها... ثمَّ تدريجيّاً بعضَ الغرابةِ في سلوكِها، إذ كثيراً ما كانت تنسى الطّعامَ على الغاز حتى يحترق، أو تضع أغراضَها في أماكنَ غريبة في البيت... ولم يتجرّأ أيٌّ من الأبناء على الاعتراف ولو لنفسِه أنَّ في الأمرِ ما يُريب، وهكذا حتى حدث أن خرجت ذات مرّةٍ للتّسوّق... ولم تعد !
قتلهم الذّعرُ، وطافوا يبحثون ويسألون، إلى أن صادفها أحدُ معارفهم فأعادها إليهم بعد أن عرفَ أنّها نسيت تماماً عنوان بيتها!
فجاءت الصّدمةُ الموجعة التي حاولوا إنكارَها... والدتهم، المرأةُ القوّيةُ الذّكيةُ الباهرة ذات العقل المتّقد مصابةٌ بمرض» «الزهايمر»... وبدأوا في البحثِ عن الحلول، بدا واضحاً أنّها باتت بحاجةٍ إلى من يعتني بها ويُلازمها طوال الوقت، ممّا يعني أنّ انتقالهَا للعيش مع أحدهم لن يحلَّ المشكلة،َّ، فمن منهم يستطيعُ الاستقالةَ من عمله والتّفرّغَ لمرافقتها وجميعُهم مثقلٌ بالالتزاماتِ والدّيونِ ومطالبِ الحياة ؟
فقرّروا أخيراً الاستعانةَ بعاملةٍ وافدة على أن يتشاركوا بتكاليف استقدامِها ورواتبها، لكن وبعد معاناةٍ ومشاكلَ مع الأولى والثّانية والثّالثة...اكتشفوا أنَّ لا فائدة، فتلك الفئةُ ليست مؤهّلة للقيام بالمهمّة الشّائكة... العناية بمريضة الزهايمر !
وماذا بعد؟ كم هو عددُ العائلات التي تمرُّ بحالاتٍ مشابهة؟ آباءٌ وامهّات أعطوا وقدّموا زهرةَ أعمارهم لنا وللمجتمع ثمَّ ليصبحوا ضحايا لهذا الابتلاء؟
قالت العربُ إنَّ المستحيلات ثلاثة: الغولُ والعنقاءُ والخلُّ الوفيّ... لكن بتُّ أعتقد أنَّ الغولَ في أحدِ أشكاله موجودٌ فعلاً ويتمثّلُ في هذا المسمّى « ألزهايمر «... إذ يلتهمُ العقلَ والإرادةَ والذّاكرةَ والكرامة !
وفي حين كرسّنا انطباعاً سلبيّاً في ثقافتنا عن دور إيواء المسنّين، لأنَّ من أجمل قيمنا وأنبلِها احترامَ كبار السّن وبرَّ الوالدين، إلا أنَّ الأمرَ قد يستدعي التفاتة جادّة من الحكومة أو من بعض المؤسّسات،أو من أهل الخيرللعملِ على توفير مراكز عنايةٍ نهارية أو حتى إقامة دائمة لبعض المصابين، وذلك تحت رعاية ِمتخصّصين وإشرافِهم، هذا دون أن ننسى بعضَ المبادرات هنا وهناك، لكنّها ليست كافيةً حتماً في التّخفيف من محنةِ بعض العائلات،المطلوب هو دورُ رعايةٍ لائقة للمرضى المسنّين دون أن نحمّلَ الموضوعَ أكثرَ ممّا يحتمل بإطلاقِ الأحكام الظّالمة والتّهم الجاهزة... فالعقوق
والجُحود ليسا في مثلِ هذه المراكز، بل في حبس أحبّائنا مع عابراتِ سّبيل غريبات، وحدَه االله يعلمُ كيف تجري الأمورُ بينهم وبين مرضانا داخل البيوتِ الخانقةِ الموحشةِ المقفلة!