كان لافتا أن النقد الذي وجهه أحد السادة النواب المحترمين إلى محافظ البنك المركزي في جلسة مجلس النواب منذ أيام لم يشر من قريب أو بعيد إلى كفاءة المحافظ أو قدراته، بل إنحصر الحديث في ما أسماه النائب ب « تقدم المحافظ في العمر» وضرورة عزله من موقعه لهذا السبب!
والمعلوم أن كثيرا من الدول تحرص على الإستقرار في هذه المواقع، لأن التغيير فيها قد يعني تغيير السياسات. فقد تجاوز رئيس البنك المركزي الأميركي الأسبق، ألن جرينسبان، سن الثمانين عاما وهو في موقعه الذي إلتحق فيه عام 1987 وبقي فيه حتى عام 2006 طيلة عهود أربعة رؤساء أميركيين بدءا بالرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان وحتى الرئيس جورج بوش الإبن حيث عليه أطلق لقب «حامي الدولار».
إنني لست بصدد الدفاع عن الدكتور زياد فريز، محافظ البنك المركزي، الذي خدم وطنه بكفاءة وعرفت مسيرته المهنية بالجدية والنزاهة والحرص على المال العام، بل هو محاولة لمناقشة فكرة التخلص من أصحاب الكفاءة في المواقع المختلفة فقط لأنهم حازوا على مزيد من الخبرات في أماكن عملهم.
إن الوطن هو الذي يخسر من هذا التخلص غير المدروس من الكفاءات التي استثمرنا فيها الكثير، وقد شهدنا حالات عديدة تم الإستغناء فيها عن خبرات بشرية مميزة بدعوى التقدم في العمر لنرى مؤسسات دولية تتهافت على إستقطابهم وتعرض عليهم أضعاف ماكانوا يتقاضونه.
إن تمكين الشباب هو الأساس في تقدم المجتمع، وقد وقفت دائما إلى جانب هذا التوجه، ولكن الوطن بحاجة إلى حماس وهمة شبابه بالقدر الذي يرتقي فيه ويعلو شانه بحكمة وخبرة شيوخه، والتفريط في أحد هذين العنصرين هو إستخفاف بأحد أهم إستحقاقات النهوض والتقدم.
ففي تجربتنا السياسية هناك مسؤولون ورؤساء وزراء تجاوزوا السبعين من العمر، وهناك قادة ورواد في قطاع الأعمال ممن تجاوزوا السبعين بل الثمانين من العمر، ومازالوا يعملون – أطال الله أعمارهم – بقوة وجلد يحسدهم عليهما الشباب، ونذكر منهم – على سبيل المثال لاالحصر – السيدين صبيح المصري وطلال أبو غزالة.
وقد نص مشروع قانون الجامعات الأردنية على جوازية رفع السن التقاعدية لعضو هيئة التدريس الى 75 عاما بدلا من 70 عاما ضمن شروط محددة.
أما على الصعيد العالمي، فقد أصبح تشرشل رئيسا لوزراء بريطانيا بعد أن تجاوز الستين عاما من عمره، وقاد بلاده إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، وأصبح ريغان رئيسا لأميركا في سن السبعين، ولم يكن أحد يعرف شيئا عن الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو إلى أن تجاوز العقد السادس من عمره مما جعله يقول: « لو أنني مت قبل الستين لم يكن ليعرفني أحد»، وإخترع عالم اللغة روجيه قاموسه الذي يعرف حتى الأن باسمه في الثالثة والسبعين من عمره، و حافظت الصحفية هيلين توماس على مقعدها في الصف الأول من قاعة المؤتمرات الصحفية في البيت الأبيض إلى أن شارفت على ولوج محطة التسعين عاما من عمرها، ووصل الياباني تيشي أغراشي إلى قمة جبل فوجي في الثامنة والتسعين من عمره.
لقد أصبح ضروريا، في ظل هذه التطورات، إعادة النظر في سن التقاعد لدينا بعد إرتفاع متوسط العمر المتوقع للأفراد نتيجة لتقدم الرعاية الطبية وارتفاع مستوى الوعي الصحي، فمن غير المعقول أن تتقاعد النساء في سن الخامسة والخمسين والرجال عندما يبلغون ستين عاما من أعمارهم، فسن التقاعد في دولة الإمارات الشقيقة هو 65 عاما وفي اليونان والنرويج 67 عاما وفي بريطانيا وسويسرا 65 عاما. وقد أوصت اللجنة الإقتصادية في مجلس الأعيان برفع سن التقاعد إلى 63 عاما. ومن الطبيعي أن تدرس مؤسسة الضمان الإجتماعي هذا الموضوع بتأن وتتخذ بشأنه الإجراء المناسب.
يتضح مما سبق أن هناك تجارب ونماذج محلية وعالمية تثبت أن المجتمعات تجني الكثير من الفوائد من خلال إستثمار طاقات جميع أفراد المجتمع، وأنها بحاجة إلى خبرة وحكمة الشيوخ بالقدر الذي تحتاج فيه إلى عزيمة وهمة الشباب، والأصل أن يحكم على أداء الموظفين وكفاءتهم ولاينظر فقط إلى أعمارهم، أو إعتبار ذلك نقيصة لمعاقبتهم أو تغييبهم عن المشهد.
الرأي