بلا ضجيجٍ ولا انتظار، تصعد الفنانةو الفلسطينية ريم بنّا إلى الصباح، تواصل اغتسالها بمطرٍ يتدلّى من السماء، ويبشّرُ بالحب والدفء والنبض، تواصل الصلاة للآلهة الأم أمام الأفق الساجد للجبال.. الرحم عندها هو الكون، والكون هو فلسطين.
صباح أول من أمس السبت (24 آذار (مارس) 2018)، نعت الشاعرة الفلسطينية زهيرة صبّاغ ابنتها ريم، قائلة عبر حسابها الشخصي على موقع (فيسبوك): "رحلت غزالتي البيضاء، خلعت عنها ثوب السقام ورحلت.. لكنها تركت لنا ابتسامتها، تضيء وجهها الجميل، تبدد حلكة الفراق".
رحيل بنّا صاحبة المنجز الموسيقي الغنائي المستنير بدروب الناس وأوجاع المنسيين، جاء بعد حوارٍ عميقٍ مع مرض السرطان انطلقت أول فصوله عام 2009.
حوار احتمل الخلاف مرّة، والحدّة مرّات، والاتفاق على هدنةٍ ممكنةٍ في أخرى. كما احتوى على فصولٍ مضيئةٍ كشفت عن شجاعةٍ فذّةٍ عند صاحبة ألبوم "مرايا الروح".
لبيلسان وقمران وأورسالم أولادها، وللأهل والأحبة والأصدقاء، كتبت ريم ما يشبه الوصية الوداعية: "لا تخافوا، هذا الجسد كقميص رثّ لا يدوم حين أخلعه.. سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق..
وأترك الجنازة "وخراريف العزاء" عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام... مراقبة الأخريات الداخلات.. والروائح المحتقنة... سأجري كغزالة إلى بيتي... سأطهو وجبة عشاء طيبة.. سأرتب البيت وأشعل الشموع... وأنتظر عودتكم في الشرفة كالعادة.. أجلس مع فنجان الميرمية.. أرقب مرج ابن عامر.. وأقول: هذه الحياة جميلة والموت كالتاريخ، فصل مزيّف".
فكم يشبه رحيلها المفعم بالرشاقة غناءها المدجج بالمعاني: "شتا.. شتا.. شتا.. تجمعنا سوا.. ونجوم بالسما غرقانة وعالدفا بيحلا السهر.."، من ألبومها "وحدها بتبقى القدس" 2002.
إنها واحدة من أغنياتها القديمة التي كتبتها تسعينيات القرن الماضي، عندما كان ما يزال الفنان وعازف الجيتار الأوكراني ليونيد ألكسيينكو زوجها ورفيق دربها (انفصلا في العام 2010 بعد زواج دام حوالي 20 عاماً). وعندما شكّلا ثنائياً مدهشاً تبنى مشروع إعادة قراءة التراث الفلسطيني بروح نقدية تجديدية، والنبش حتى في النصوص المتواترة التي لا تملك لحناً خاصاً بها.
في واحدة من حلقات "ثنائيات" التي أنتجتها شركة طيف لصالح الجزيرة الوثائقية من إخراج بشار حمدان، تقول بنّا المولودة في العام 1966، حول مشروعها مع ألكسيينكو: "ينحصر جزء من عملنا في جمع نصوص فلسطينية متواترة، من تلك التي لا يوجد لها لحن. ولكي لا تُمحى هذه النصوص من الذاكرة، نحاول تأليف ألحان لها تكون حديثة ومُستوحاة من الموسيقى التراثية الفلسطينية".
أغاني بنّا تتناول عموماً، معاناة الفلسطينيين بشكل ملحّ وعاطفي وأحيانًا بصورة قاسية. هي هنا لا تسخر من المجتمع الفلسطيني أو تنتقده. فهي تريد، كما تقول، معالجة الحياة اليومية للفلسطينيين معالجة موسيقية، وهذه الحياة مطبوعة في الضفة الغربية بطابع العنف والقمع.
كما حرصت خلال رحلتها الفنية والحياتية مع ألكسيينكو على تقديم أغانٍ من نصوص شعراء فلسطينيين معروفين: توفيق زيّاد, محمود درويش, سميح القاسم, زهيرة صبّاغ وآخرين, إضافة إلى أغنيات من كلماتها.
حيث كانا يشتركان في صياغة النص النهائي للألحان والتوزيعات الموسيقية والغنائية الخلاقة بأسلوبهما المتميز الخاص بهما.
مساحة خاصة واستثنائية، منحتها بنّا صاحبة ألبوم "الحلم" للأطفال وللطفولة، وهي مساحة لم تبق حبيسة الجغرافيا الفلسطينية، بل امتدت بيدٍ حدوبة على أطفال سوريا وباقي البلدان العربية وصولاً للانغماس في هموم الطفولة الإنسانية في مختلف جهات الأرض.
وليس بعيداً عن كل ذلك، مغامرتها الملتزمة، عندما دخلت في النصف الأول من العام 2013، مناطق الشمال السوري (ريف حلب تحديداً) في أكثر مراحل الصراع السوري دموية وقصفاً وبراميل.
إنها الرحلة "الحياة" التي أرغمت الفنانة الناصرية على الحديث بحدّةٍ وعصبية حول أضاليل الإعلام الذي ينشغل بجهاد النكاح ولا يلتفت لإقامة 12 فرداً في خيمة واحدة، ولا يعنيه استخدام 700 لاجئ حمّامٍ واحد، وينام هانئ البال رغم عدم تناول أطفال بعض مخيمات اللجوء الطعام لمدة خمسة أيام متواصلة.
"لمّا نكبر شوي"، "ماما حبّيني"، "نامي يا لعبة نامي تحت لحافي وحرامي"، "كل كبيبة"، "قمر أبو ليلة شو تعيشيت الليلة خبز وجبنة مالحة من عند عمتي صالحة"، "عيد الميلاد"، "عيد الفطر السعيد" و"بهللّك" وأغنيات أخرى تضمنها ألبومها "نوار نيسان" الموجه للأطفال والمتنوّع بخياراته الموسيقية واللحنية والتوزيعية.
غناء متوّج بصدق خالص لوجه الحق والحقيقة، منساب بين كروم الأرض وعناقيد البلاد، مزيّن بصوتٍ تحدى مختلف ما يمكن أن يعطّل صفاء مقاصده، ونداوة حضوره، وخلاخيل شهده.
درست بنّا الموسيقى والغناء في المعهد العالي للموسيقى "GNESINS" في موسكو (الاتحاد السوفييتي), وتخصصت في الغناء الحديث وقيادة مجموعات غنائية بإشراف أستاذ الغناء المعروف, الملحن والفنّان Vladimer Karobka, حيث أنهت ست سنوات أكاديمية وتخرجت بامتياز عام 1991.
لم تبحث عن تكريمٍ أو جائزةٍ أو قلادةٍ أو منصب، لكن الجوائز والتكريمات وصلتها ملتمسةً منها التكرّم بالقبول: "شخصيّة العام" 1994 ولقب "سفيرة السلام" في إيطاليا. درع "مسرح IBSEN القومي عام 1996 في أوسلو عاصمة النرويج. درع بلدية آلما-آتا (كازخستان) في العام نفسه. "شخصيّة العام" 1997 من "وزارة المرأة" في تونس، ومن تونس في العام الذي تلاه "شخصيّة العام" من محافظ مدينة باجه. عام 2000 فازت بنّا بجائزة فلسطين للغناء، وفي عام 2013 فازت بجائزة ابن رشد للفكر الحر، قبل أن تختارها حكومة فلسطين شخصية العام 2016.
من "تجليات الوجد والثورة" الذي أصدرته في العام 2013 رجوعاً إلى "جفرا" الذي أصدرته عام 1985، وما بينهما من ألبومات وأغنيات ومواقف ومشاريع ورحلة عمر، أعادت بنّا لوطنٍ سليبٍ روحه التي كانت تسير في شوارعه، وعانقت ذاكرة عكا وحيفا ويافا والمرج والناصرة.
غنّت ريم بنّا لنيسان والحُب ومواسم البنفسج ورؤوس الجبال. غنّت لليلٍ طويلٍ طويلٍ بعد رحيلها وتركه لنا دون توقع ألق ابتساماتها في صباحاته المشتهاة. غنّت صبر الخشب تحت المناشيرِ غنّت لبكرا غنّت للإنسان.